ثم انتقل إلى موضوع دهشة الأولين الذين قهرتهم عبقرية النبي الأمي وقرآنه فقال: " إذا قام بيننا البناء والحداد ينظمان القريض الجيد أعجبنا حسن القصيدة من جهة، وغرابة المصدر من جهة أخرى، لأنهما عاملان أميان لم يأخذا من الدراسة والكتابة حظًّا.. ". فمحمد الأمي الخاطب بآية :" وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك.. ". ربيب البادية، وخريج حي بني سعد، ينهض في أم القرى بدعوى نسخ الأنظمة، وتعديل الشرائع، وإصلاح العالم... هذا من جهة، ومن جهة أخرى: إنه أفنى قواه في معارضة أقوام سفلة، وكابد الأذى والأسى من الأفواه والأيدي، وقضى حياته في إدارة الحروب والمغازي، وهو ما بين هذه وتلك يأتي بكتاب يعجز عن مباراته بلغاء عصره ونوابغ دهره، رجل كذلك لابد وأن يدهش الناس أمره وحق لهم أن يندهشوا لأن الرجل الأمي قد يفوز بالعبقرية ولكن عبقريته لابد أن تتجه إما إلى ميادين الحروب فيكون من عظماء الفاتحين، أو تتجه إلى أندية الرأي ومجالس الشورى فيكون من كبار الساسة والدهاة... أما أن يجمع الحسنيين ويضيف إليهما نبوغًا في العلم، ونبوغًا في التشريع والقضاء، ونبوغًا في جذب عواطف الخاصة والعامة، فلم يسمع به التاريخ، ولم يسمع به الزمان... وربما عد الفن وجوده ضربًا من المحال... إذن فالدهشة طبيعية لدى مشاهدة بطل كهذا... بطل في العلم والنظم... بطل في السياسة والفلسفة معًا... بطل في الإدارة وفي قيادة الخاصة والعامة جميعًا... بطل في التشريع والتنفيذ حتى على نفسه وأهله... بطل في كل ذلك، ثم هو فوق ذلك أمي غير متعلم... وأكثر ما يجب فيه.. أنه لم يتخصص بفن واحد من الفنون، لا في ألفاظه ونظمه. ولا في معانيه وحكمه. فبينما نراه يتصدر ببلاغة عجبي، وأمثال عذبي، ص _١٣٥


الصفحة التالية
Icon