والرسول وهو يحمل عبء البلاغ عن ربه، ويشق طريقه وسط التكذيب والعناد، والقسوة والهزء، ويمضي بأتباعه القلائل في معركة موصولة الليالي والأيام، هذا الرسول الجاد المصابر بحاجة إلى مدد بعد مدد من عناية الله الذي يبلغ عنه، بحاجة إلى تثبيت الوحي نفسه في مجال لا تفلح فيه قوى البشر وحدها..!! إن أصحاب الرسالات الإنسانية إن لم تواتهم حظوظ طيبة، أو تساعدهم أقدار حسنة؛ فشلوا حتمًا. والرسالات الإنسانية أعمال محدودة القيمة والهدف، فكيف بمن يحملون رسالات السماء؟! وهي أجل وأنبل وأثقل ما عرف العالم من توجيه وجهد... ؟ إن تثبيت أفئدتهم بالوحي الذي هو أساس لظهورهم أمر لا عجب فيه. وتفريق هذا الوحي حسب ما يلقون من متاعب وصعوبات أمر لا عجب فيه كذلك... هذا فيما يتصل بالناحية النفسية للرسول. وثم أمر يتصل بطبيعة الوحي المنزل، فإن الله يقول فيه " ورتلناه ترتيلاً " أي بيناه في ترسل وتثبت. والتبين على هذه الصورة معناه سوق الآيات على مهل، مفرقة تفريقًا يسكب الوضوح واليقين على كل جزء فيها، قد يكون في الإجمال والسرعة نوع من الإغماض والتجوز، أما التفصيل المتأني فهو دائمًا قرين الصدق والدقة، وقد فصلت آيات القرآن من ناحية الأسلوب؛ فجاءت وقفة بعد وقفة، وفصلت من ناحية الموضوع فجاءت على قريب من ربع قرن، كأن الزمن قد جعل جزءًا من شرحها، أو عونًا على ترديد صداها، وإتاحة التأمل المستغرق فيها.. وتنكشف هذه الحكمة كلها في قوله بعد :" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ". أي أن الناس سوف يتلقون مطالع الرسالة بصنوف من الاعتراض والتساؤل، وسيؤلفون لها ردودًا. ويثيرون حولها شبهًا. وهنا تبدو الفائدة من نزول الوحي مجزءًا؛ فإن الشبه المثارة ستكون فرصة لمزيد من نور الحق يكشف ضلالها، ويمحق محالها، وسيتكفل الوحي بالإجابة على كل سؤال، والإزالة لكل خفاء.. وقد تكون تفرقة النزول ظاهرة النفع عند الحكم في القضايا المتجددة