٤- ومن المسلم به أن القرآن الكريم وصل إلينا كاملاً، لم ينقص منه حرف واحد، تظاهرت الكتابة والحفظ من أول يوم على صيانته في ضبط لم يؤثر البتة عن كتاب في الأولين والآخرين... أما السنن فقد تأخر تدوينها، والتحق بها ما ليس منها، فاجتهد الأئمة في غربلتها، ونقد طرقها ومتونها، واختلفت أنظارهم في ذلك بين التصحيح والتصنيف والقبول والرد... ولاشك أنهم وضعوا قواعد للنقد العلمي تستحق كل احترام وجردوا تراث النبوة مما قد يعلق به من أوهام.. بيد أن جملة السنن التي وصلت إلينا بعد ذلك الجهد لا يمكن القطع بأنها كل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأن الرواة أحصوا في سجلاتهم كلام النبي كله لم يسقط منه شيء. وذلك على عكس القرآن الكريم، فإن ثبوته كله يجعل هيمنته على مصادر التشريع لا تقبل جدلاً... ومعاذ الله أن نغمط السنة حقها، فهي ضميمة إلى القرآن لابد منها... ونحن نعلم أن معالجة التطبيق العملي للمبادئ والأسس العامة تتطلب غيضًا من التفصيلات والتفريعات المنوعة. وقد قامت السنة بهذه الوظيفة بالنسبة إلى القرآن. وعندما نلقي نظرة عجلى على مجتمعنا مثلاً، نرى هذه التعليمات الفرعية تملأ كل أفق. فاللوائح الداخلية والتشريعات التجارية والمدنية والجنائية والاقتصادية تقوم بعملها الخطير في تنظيم الحياة العلمية، وهو عمل لا يمكن تجاهله، لكن لا يمكن أيضًا الذهاب به فوق قدره بالنسبة إلى الدستور المشرف على كل شيء والمهيمن على تقعيد القواعد واتجاه الفروع، بل الذي تبطل القوانين إذا جافت نصه أو روحه. وكذلك القرآن بالنسبة إلى السنن المروية كلها، إنها تسير في هداه، وتنطلق إلى مداه، وما يسوغ لفقيه مسلم أن يفهم غير هذا، ولا لمجتمع مسلم أن يحيا على غيرها... وقد رأيت نفرًا من المتدينين يخوض في السنن وبضاعته من القرآن قليلة، وبصره ص _١٤٤


الصفحة التالية
Icon