إلى الآيات كليل، فأنكرت ذلك وأيقنت أن معالم الإسلام لن تكون صريحة في ذهنه، كما لا نستطيع الزعم بأنك تفهم النظام الشيوعي لمجرد الاطلاع على صفحات من جرائده اليومية، أو بعض التعليمات الخاصة بمزارعه الجماعية..! وفهم القران الكريم لا يتم بفهم معاني الجمل ومغازي التراكيب فحسب، بل لابد أن تطبع في نفس القارئ الروح التي صدر عنها الكلام كله والدلالات التي تكتنفه كوحدة متماسكة، ولهذا الانطباع أثره في دقة التشريع. والناس يتفاوتون حكمة وفقها بمقدار أنصبتهم من هذا الإدراك النافذ الشامل... وأئمة الإسلام لم يبلغوا درجة الإمامة فيه إلا بما آتاهم الله من فهم في كتابه، ووعي لأسراره، وذوق لحكمة التشريع وأهداف الوحي، ومرامي الخطاب الإلهي في الأمر والنهي، والوعظ والاعتبار.. إنني أحيانًا أقرأ آيات القرآن في وصف الكون، وقصص الأمم ـ وهي آيات لا علاقة لها بالتشريع ـ فاستشف من أسلوبها حقيقة حياتنا، ومعنى وجودنا على النحو الذي يرضاه الله لنا، استشف حدود هذه الحياة ومعنى ذلك الوجود قبل أن يظهر جليًّا في قوالب الأمر والنهي... أتصور وأنا أتلوها أننا طلقاء في عالم بعيد الآماد والأرجاء، ممهد الأرض والسماء، نستطيع أن نحيا فيه كما نشاء إذا التزمنا صحة الفطرة، وسلامة الطبيعة، واعتدال المزاج. أما إذا اعتلت الفطر، واعوجت الطباع، واضطربت الأمزجة، فالناس لا محالة بحاجة إلى من يعيدهم طوعًا أو كرهًا إلى العافية التي فقدوها... وهل أحكام الله في كل مجال إنساني إلا ضمان السلامة للسليم، وإعادة الصحة للعليل؟ لهذا شرعت الصلاة والزكاة، ولهذا شرع النصح بالبيان البليغ، حينًا. ثم بالسلاح البليغ إذا ضربت العلل، وأراد المرضى أن ينشروا جراثيمهم في كل مكان وأن يقطعوا الطريق على حملة الأدوية. ولهذا أنزل الله نكاله بأمم شتى بعضها أسرف في الشهوة واستمرأ الشذوذ، ص _١٤٥


الصفحة التالية
Icon