وبعضها جنح إلى الكبر وأغواه البطر، وبعضها استحل البخس واجتاح الحقوق، وبعضها احتقر النعمة، واستباح الجبروت والبطش: " فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون". إن تالي القرآن الخالي الذهن من أية تعاليم أخرى، يخرج بعد سياحة في سوره الواعية الهادية بصورة دقيقة عما يريد الله لعباده، صورة لا تمتاز بكثرة القيود، وإنما تمتاز بعمق التوجيه إلى المعاني التي أشرنا إليها آنفًا... وهي صورة لا ينبغي أن ينساها مسلم، العالم والمتعلم... ولندع ذلك التناول الأدبي المرن لحقائق القرآن، ولنعد إلى طريقة الفقهاء في تقرير الأحكام واستخراجها... إن أئمة الفقه متفقون- كما قلنا- على أن القرآن هو المصدر الأول للتشريع، وهم متفقون كذلك على أن السنة مصدر ثان تؤخذ منه الأحكام. وربما بدا للنظر العاجل أن هناك اختلافًا بين كلا الدليلين في بعض القضايا والفتاوى. فماذا نصنع بإزاء ما يبدو من ذلك؟.. والجواب سهل، فإن ما يبدو من اختلاف في الظاهر يتلاشى عند التأمل، ثم يتحقق المرء أن لكلا الدليلين مجالاً يعمل فيه، ولا يشتبك مع صاحبه في تناقض ما، وذلك في أغلب الأحوال... وإذا افترضنا جدلاً أن الأمر لا يتحمل إلا حكمًا واحدًا، فإن هذا الحكم لا يكون إلا في القرآن وحده بداهة، وليس يقف شيء قط أمام هذا الأصل الأول للإسلام، وهاك أمثلة موضحة لذلك الكلام... ا- هل السفر عذر يبيح التيمم؟ إن مطالعة الآثار الواردة في السنة تؤدي إلى القول بأن فقدان الماء حقيقة أو حكمًا هو الذي يبيح التيمم، ومن ثم ذهب أغلب الفقهاء إلى القول بأن المسافر لا يجوز له أن يتمم ما دام استعمال الماء ميسورًا له.. ولعلهم جنحوا إلى هذا القول، لأن السنة موطن التفصيل والتطبيق بالنسبة إلى ما في الكتاب من تعاليم. ص _١٤٦


الصفحة التالية
Icon