إن دارس الطب قد يمكث خمس سنين في تحصيل ثروة طائلة من المعارف الصحية ومن طبائع الأدواء والأدوية، أتظن هذا القدر الواسع من الدراسة يفتقر أو يحتاج إليه كل فرد في حياته العامة؟!.. كلا كلا، حسب الناس أن يعرفوا جملة من النصائح الطبية المحدودة، وأن يزودوا إذا اقتضت الضرورة بمزيد من الإيضاح في تحصين أنفسهم ضد مرض وافد... والحال كذلك بالنسبة إلى السنن: إن هناك مئات الأحاديث من الرقاق والقدر والتوبة والفتن وغيرها ما لا يفيد العامة من دراستها شيئًا، ولا طاقة لهم على إدراكها لأنها قيلت في نطاق معين ولظروف خاصة. ولعل ذلك سر قول رسول الله ﷺ :" حدثوا الناس بما يطيقون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله " ؟؟ إن شحن الأذهان بهذه الأحاديث- كما يفعل القاصرون من الوظائف والقصاص- مع خلو الأنفس من الأسس القرآنية الأصيلة لا يكون مسلمًا متوازن القوى، صائب الاتجاه.. ٣- في القرآن الكريم خلاصات روحية فعالة تثير الحياة في الضمائر، وتقيم حواجز معينة حول السلوك الإنساني كي لا يشرد أو يزيغ. وقوام هذه الخلاصات دعم قوى الخير وكبح وساوس الشر بوسائل الترغيب والترهيب والتربية والتوجيه. والقرآن في هذه الخلاصات يستهدف إيقاظ النفس وبعث ملكتها العليا، ولا يعتمد على الإكثار من الحوادث العارضة ثم البت فيها بحكم الله. بل إن هذه الأحكام المحدودة توجد في القرآن الكريم كما توجد الجزر المتناثرة في بحر محيط. ذلك أن القرآن الكريم يركز اهتمامه في ربط المرء بالله على أساس بارز من توحيده وتقواه والاستعداد للقائه. وهذه المعاني هي ضمانات الكمال على اختلاف العصور والأجيال. ويلاحظ أن أسلوب القرآن في هذا المجال يشفي العامة ويشفي الخاصة، فظاهره القريب يهدي الجماهير الساذجة، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكر..!! ص _١٥٥


الصفحة التالية
Icon