وكان نزول القرآن ضرورة لإحياء النبوات الأولى، وإبراز ما كاد البلى يطمسه من أركانها، وجعل أهل الأديان يلتقون عند مبدأ واحد، ويرون أنفسهم على هداه أمة واحدة. ولا ريب أن الإسلام وضع للناس معالم وحدة دينية شاملة تقرب بعيدهم، وتلين غليظهم. واقتضى إقرار هذه الوحدة رد أتباع موسى وعيسى إلى قواعد الدين الذي أتى به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وصرفهم عن المحدثات التي أقحموها على هدايات الله وليست منه في قليل ولا كثير.. وهذا المسلك الذي انفرد القرآن به يمتاز بالإنصاف والأدب وإيثار الإسلام، والحرص على إقامة أخوة نقية بين المتدينين من كل لون. هو في هذا المجال لا يهدم مزاعم اليهود والنصارى، كي يحملهم على اتباع محمد واعتناق دينه، بل يرجع بالأنبياء وأشياعهم جميعًا إلى الحقيقة الكبرى التي سبق إليها الأنبياء الأولون، وهي حقيقة لا يفترق الأنبياء فيها، ولا يسوغ لأممهم أن يتجادلوا عليها. " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ". وماذا عسى يفعل اليهود أو النصارى بعد هذه الدعوة؟! إنهم بين أمرين ليس لهما ثالث: فإما أن يدخلوا في الدائرة الرحبة، ويصبحوا هم والمسلمون سواء، وإما أن يتشبثوا بما أنكروا، ويتجهموا لهذا النداء الصادق، ويظلوا يناصبون أصحابه العداء، وعندئذ إلى الله وحده المفزع، ومنه يستمد العون على النجاة من غوائل أولئك المكذبين. " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ". وقد صرح القرآن بما يفهم منه الدعوة إلى هذه الوحدة.. ص _١٧٧


الصفحة التالية
Icon