زد على ذلك أن القرآن الكريم حفت به أسوار لا تخترق. فمادة الوحي الإلهي فيه خالدة نقية، والناس ربما وهت علاقتهم بالله حينًا وضلوا عن صراطه. بيد أن المثابة التي يرجعون إليها، ويهتدون بأعلامها، باقية لم تتغير. ويسير على التوابين وعلى المصلحين أن يهيبوا بالطوائف الزائفة كي تعود إلى الرباط التي انفكت عنه. ولكن ما الحيلة إذا كان الأصل الذي يهتدي به الناس ضاع، والدواء الذي يستشفون به هو نفسه فسد؟؟! إن الحكمة الكبرى في إرسال محمد إنصاف الحقيقة التي طمستها أزمات الإنسانية، ثم طمرتها في طياتها كما تطوي الكثبان المتحركة خيام الصحراء بما فيها ومن فيها، ثم صوغ هذه الحقيقة في بيان محصن يحميها من الزوال. ويمكن لها من قلب الإنسان ولبه على اختلاف الليل والنهار... على أن الإسلام- للأسف- لم يعرف للعالمين تعرفًا حسنًا، فلا تزال الوثنية تجر وراءها جماهير كثيفة في آسيا وإفريقيا، ثم لا تزال المسيحية تسود في مساحات شاسعة.. وكان من قدر الله أن قامت في البلاد المسيحية يقظات إنسانية خطيرة الشأن، نتجت عنها حضارة مادية هائلة أمكنها تملك العالم وتسخير قواه... ومن الدجل الممجوج أن يزعم زاعم أن الحضارة العلمية الناهضة في الشرق أو الغرب كان للنصرانية أو لغيرها أثر في قيامها... لكن العالم الجائع إلى دين، نظر إلى النصرانية كأقرب شيء إلى يده.. نظر إليها في تأمل وفحص ثم انقسم بإزائها قسمين. قسم قبلها على إغماض، وعاش بها كما علمت، لا يرفع بها رأسًا، ولا يطيب نفسًا... وقسم آخر صدف عنها، وولى وجهه إلى حيث تقوده قدماه.. وفي هذا الازدواج بين التفوق العلمي والتأخر الديني نبتت جميع الفلسفات والمذاهب التي مرغت المثل العليا في الوحل، نبتت الوجودية والشيوعية والإباحية والنازية والفاشية ومذاهب القوة والتفريق العنصري وغير ذلك. والعلة الأصيلة لهذا الفساد العريض انكماش الإسلام واستخفاء منهجه من العيون الذكية وبقاء النصرانية


الصفحة التالية
Icon