والموازنة، ص _١٨٢
ولينقد في حرية تامة ما كانت عليه وما عرض له على سواء ثم يجنح آخر الأمر إلى ما بانت حجته، واتضحت حجته. وقواعد البحث العلمي الصحيح تنهض على هذه القاعدة المكينة. وعندما كنت أقرأ في إعجاب بالغ شرحًا لهذه القاعدة ما كتبه المؤلف الفرنسي "كلودبرنار" عادت بي الذاكرة إلى موقف أهل الكتاب الأولين من الإسلام ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام. فإن اليهود والنصارى الأقدمين وكذلك أحلافهم من الغربيين والمحدثين خرجوا على هذه القاعدة خروجًا بينًا، بل تجاهلوها تجاهلاً تامًّا وهم يتناولون الدين الجديد ويواجهون صاحبه بينًا الخصام! واسمع ما يقوله " كلودبر نار " في كتابه " مدخل إلى دراسة الطب التجريبي " قال: " من الأطباء من يخشون الاختبار العكسي وبهربون منه، فمتى وافقت ملاحظاتهم أفكارهم، رفضوا البحث عن وقائع مناقضة خشية أن يروا فروضهم تنهار وتتداعى، وهذه كما قلنا روح خبيثة، فالمرء حين الاهتداء إلى الحقيقة لا يستطيع أن يقيم آراءه على أسس متينة ما لم يحاول هدم نتائجه نفسها بالتجارب العكسية!. والمؤلف يقصد بالبرهان العكسي إعادة البحث في التجربة لمعرفة هل النتائج التي أدت إليها وليدة ظروف عارضة، أو وليدة الصدفة؟. فإذا تغيرت الظروف والأحوال وظلت نتائج التجربة مطردة على الدوام دل ذلك على صحتها، لكن من الناس، من يكتفي ببعض الأمارات على صدق ما اقتنع من قبل، ويخاف بل يعكره أن يفتح عينيه على معلومات جديدة. لماذا؟ لأن هذه المعلومات قد تزيف ما لديه من معرفة، وتكشف قيامها على خطأ جسيم، وهو لا يرغب في إصلاح فكره، ولا في تصحيح موقفه !!. وفي أثناء المحاورات القديمة بين أهل الكتاب وصاحب الرسالة الجديدة لاحظنا أن بصيصًا من المعرفة كان يشرق في أذهان نفر من القساوسة وهم يسمعون القرآن ويصيحون إلى تحدي نبيه، إذ يدعوهم إلى مباهلة عامة تجعل لعنة الله على الكاذبين. لكن القوم ساءلوا أنفسهم: ما ضرورة هذه


الصفحة التالية
Icon