وعندما تبلغ الإرادة هذا الحد من القدرة والتسامي، فإن القرار الأخير بالحرمان يجيء في إبانه المناسب، وفي أحسن الظروف لتنفيذه، ومن ثم لم يمض كبير وقت حتى نزل النص الأخير: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون". وبعد مجيء هذا الإرشاد القاطع شقت بواطي الخمر، وكسرت دنانها، ورمي بها في طرق المدينة... ليس في هذه الآيات الكثيرة ما يفيد أن الله أباح الخمر أولاً، ثم عاد فحرمها، هل في القرآن نص آخر تفهم منه هذه الإباحة؟! إن البعض يتوهم من الآية الواردة في سورة النحل أنها تنطوي على حل الخمر، وهذا الوهم لا محل له. فسورة النحل هذه هي سورة النعم، فيها سرد جميل لآلاء الله على عباده، وخلال هذا السرد تقرأ قوله جل شأنه: " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين * ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ". إن البعض فهم من السكر أنه الخمر، وهذا خطأ، فالسكر هو الأشربة الحلوة التي تعصر من صنوف الفواكه، ويتناولها الناس طعامًا شهيًّا مغذيًّا، ومادة الكلمة أقرب إلى السكر منها إلى السكر. وليس من المعقول عد الخمر من صنوف النعم، ثم سوق ذلك على سبيل الخبر؛ فإن النسخ عند من يقولون به لا يدخل في الأخبار، وإلا أصبح تكذيبًا لا تشريعًا. ويرى البعض أن الآية جمعت بين الامتنان والتقريع، وأن اتخاذ الناس أنواع المسكر من ثمرات الأرض لا يسوغ، ولذلك فصلت بين الأمرين، فوصفت الرزق الأخير بالحسن، وسكتت عن الأول توطئة لتحريمه مستقبلاً.. وأياما كان الأمر، ص _١٩٨


الصفحة التالية
Icon