إن الأدلة التاريخية المختلفة قد ترشح بعض الحق، أما الحالة بالنسبة للقرآن فإن الشواهد على صدقه تجيء سيلاً غدقًا، ينفي بطبيعته الشبه، ويؤسس اليقين تأسيسًا..!! والطريق الأول في أخذ القرآن عن صاحب الوحي، ثم في انتشاره بعد بين الناس هو التلقي بالمشافهة على سبيل التواتر والاستفاضة ؛ فالنبي ـ ﷺ ـ يقرأ ما يجيئه من عند الله، والصحابة يسمعون منه بآذانهم، فيعرفون منه حقيقة النظم القرآني، وأسلوب أدائه معًا. كأنواع المدود ومخارج الحروف وما إلى ذلك. وهذا الضرب من التلقي لم ينتقل به القرآن الكريم من الرسول إلى أصحابه مرة واحدة أعقبها صمت طويل. كلا، فإن تكرار القراءة جعل تداول الوحي الأعلى أمرًا مفروضًا؛ فالرسول يحفظه، وأصحابه الآخذون عنه يحفظون، ثم يعود هذا المحفوظ إلى الظهور في الصلوات الموقوتة، فالرسول يقرأ والصحابة يستمعون. وإذا أراد أي مسلم أن يتعبد؛ قرأ في جوف الليل، أو في وضح النهار، وإذا أراد أن يتغنى بالقرآن فعل، وإذا أراد أن يخطب به فعل، وإذا أراد أن يدرسه فعل، وهكذا. ما إن ينزل شيء من القرآن حتى تستوعبه الصدور، ثم تردده في كل أفق، لا في يوم أو عام، بل في قرابة ربع قرن، ولا مع رجل واحد، أو قبيلة واحدة. بل بين الألوف المؤلفة من الناس..!! إن هذه الأشرطة الحية لم تكن فقط مستودعًا يحفظ القرآن لتتيسر عند اللزوم إذاعته، بل كانت تهدر بآيات الله آناء الليل، وأطراف النهار، في حلق الذكر ومجالس العلم، ومحاريب الصلاة، وخطب الجمع، والمجامع العامة..!! وبهذا التواتر الرائع ثبت القرآن ثبوتًا لا مجال فيه لظنون أو أوهام. وعلماء المسلمين يعتمدون على طريق التلقي هذه، ويرجعون إليها وحدها في علوم التجويد والأداء. قال السيوطي :" والأمة كما هي متعبدة بفهم معاني القرآن وأحكامه، متعبدة بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من الأئمة القراء، وهي الصفة المتصلة بالحضرة النبوية "


الصفحة التالية
Icon