فالقول بأنهم سئلوا لا ينفيه القول بأنهم لم يسألوا. ذاك في موقف وهذا في موقف آخر... وتلك الأوصاف المتغايرة تشبه الأحكام المتغايرة لا لشيء إلا لأن القضايا التي تعرضت لها ليست سواء، فلا جرم أنها تصدر متفاوتة في اللطف والعنف، والأخذ والتجاوز... ومعاملة الكافرين بالإسلام من هذا القبيل، لم يرد فيها حكم واحد، ولم ينسخ فيها حكم ورد. بل كل حالة يرصد لها ما يناسبها وكل موقف ينزل فيه ما يصلح له. واختلاف الأوامر والوصايا في هذا الشأن لا يعاب، المعيب هو جمود التوجيه على تلون أحوال الخصوم. وتقلبهم، بين الإنصاف والاعتساف. والإسلام منذ ظهر، ثم بعدما دخل في أطوار الكفاح ضد معوقي سيره، ثم بعد ما اجتاز هذه المراحل ليستقر وينمو، مرت به أوامر ونواه كلها حق، و إن هادنت حينًا وخاصمت حينًا آخر. فلم يكن بد من ملاينة أهل السلم. ومجافاة أهل العدوان. وكلا النصين في موضعه سليم. وليس العيب كما قلنا في اختلاف الأدوية إذا اختلفت العلل، إنما العيب ألا تحسن المداواة، أو أن تضع علاجًا مكان آخر. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى وقد أقحم القول بالنسخ في الآيات الواردة بشأن الكفار إقحامًا غريبًا، فألغى بعضها دون وعي، وأعمل البعض الآخر دون فقه، والأمر أجل من ذلك وأحوج إلى تغلغل النظر وسداد القول... والقارئ اللبيب يرى أن الكتاب العزيز قد تناول المعارضين له والكافرين به بأساليب شتى، ليس من بينها قط إرغام أحد على قبول الإسلام وهو عنه صاد. كل ما ينشده الإسلام أن يعامل في حدود النصفة والقسط، وألا تدخل عوامل الإرهاب في صرف امرئ انشرح صدره به. ولم يكن على الإسلام من بأس. ولن يكون عليه بأس أبدًا لو أصر ألوف المنتسبين إلى الأديان الأخرى على البقاء في معتقداتهم.. فكلمة: " لكم دينكم ولي دين". وكلمة: " لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ". ص _٢١٧