وفي سورة التوبة- وهي التي أعلنت الحرب على طوائف من أهل الكتاب ختمت السورة بهذا التوجيه: " فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ". لم يقل فإن تولوا فعليهم اللعنة، ولابد من مقاتلتهم حتى ينخلعوا عن دينهم، ويدخلوا في ديننا. كلا. إن توليتم فالملجأ إلى الله من كيدكم إن أغراكم الشيطان بكيد، أو دفعكم إلى حرب. والواقع أن الإسلام لم يشتبك في قتال مع النصارى أو اليهود إلا بعد أن وصل هؤلاء وأولئك إلى منزلة في السلوك والسياسة عريت عن الشرف والعدالة. وبعدت عن مرضاة الله كما يصوره موسى وعيسى أنفسهما، فهم تمردوا على أنبيائهم قبل أن يتمردوا على محمد، وهدموا حدود الحلال والحرام كما آلت إليهم قبل أن يهدموا حدود الحلال والحرام كما بينها القرآن الكريم. وكما شرحها النبي المتواضع النبيل محمد بن عبد الله، وفي مثل هذه الحالات تكون موالاة الكافرين خيانة لمبادئ الحق، ويكون النزول على إرادتهم تسليمًا مطلقًا للباطل وأهله... ومع ذلك فإن القتال إذا وقع لم يشترط الإسلام لانتهائه شروطًا تخرج الناس عن الحق كما يتصورونه، وتدخلهم في الحق كما يتصوره كل. إن هناك شروطًا يرضاها الجميع، وتتفق مع أفهام الفريقين المتنازعين مهما ضاقت أو اشتطت: هي العدل والرحمة، ودائرة العدل، والرحمة رحبة الآفاق، واسعة الأقطار، يتعاون فيها أهل الأديان جميعًا على حسن الجوار، وكرم اللقاء، بل إنها تتسع للمؤمنين، ولمن لا يدين بدين.. وبديهي أن المسلم سوف يلجأ إلى الحذر والتوجس إذا كان الآخرون دائبين على استباحة الحق، وكراهية دينه، ورفض الاعتراف بنصيبه في الحياة والكرامة والحرية، والدعاية المؤدبة العاقلة.. وآيات القرآن التي أتت شارحة موقف الإسلام لمن يدخل فيه لا صلة لها بالنسخ ومعرفة المتقدم والمتأخر منها، إنما تفيد تفهم الملابسات والدوائر التي تعمل كل آية داخل نطاقها لا تعدوه.. ص _٢١٩


الصفحة التالية
Icon