وهنا نتريث هنيهة لنفكر. إن جرثومة الحياة التي يتخلق منها الجنين في بطن أمه تتم من تلاقي حيوان واحد في صلب الرجل مع بويضة واحدة في كيان الأنثى. لكن هذا الحيوان الواحد لا يسبح فريدًا في الماء الذي يتدفق، إنه يسبح بين الألوف المؤلفة من أترابه، ألوف تعجز العادين لكثرتها، وكلها سواء في قوة الإخصاب وسر الحياة.. والوجود الدائم الذي انفرد به هذا القرآن، واطرد به مع مواكب الحياة المائجة، فيه بعض شبه من هذا التخلق الإنساني الغريب. فإن الحفظة ألوف مؤلفة، فيهم جماهير غفيرة ممن يتقنون تلاوة القرآن حرفًا حرفًا، ويحسنون المدود والغنن، مدًّا مدًّا، وغنة غنة.. ويعبدون الله بالحل والترحال فيه كلما انتهوا من آخر سورة افتتحوا القراءة من جديد، لا يسقطون لفظًا.. وقد يكونون على فقر مدقع في معاني ما يقرأون، وقد يتكسبون لقيمات الخبز، أو يأكلون السمن والعسل من هذه التلاوة المجردة. بيد أنه في هذه المحيطات الموارة من حملة القرآن شاءت العناية العليا أن تتولد أسباب خلوده، وأن تمتد حبال حياته، وأن توجد طائفة من الفاقهين تعمل به وتعمل له، وترث النبوة في حمل أمانة الوحي، وفي صيانته وسط ضوابط من الشرف والعفة، ثم تبلغه للأم مشروحًا نقيًّا كيما تهتدي بمناره، وتنطلق في آثاره. وتزاحم العامة على استظهار القرآن طوال القرون السابقة، وإلى ما شاء الله، أمر نبت في ربوع الإيمان، وكمنت فيه عدة الله ببقاء هذا القرآن أبد الآبدين. وقد رأيت في حياتي الخاصة مجلي لهذا التعبد المنبعث عن صدق اليقين وقوة الرجاء في جنب الله.. فإن أبي توفر على تعليمي القرآن بحماسة لم يدركها فتور حتى استظهرته وأنا صبي غض العود. وقد فعل ذلك وهو يعلم أن المتخرجين في المدارس المدنية قد استأثروا بغنائم الحياة وأشرف مناصبها. وأن علماء الأزهر يحيون على ما يلقى إليهم من فتات الموائد.. فمرتب الواحد منهم قد يبلغ ثلاثة جنيهات في الشهر لا يزيد!!. ص _٢٢٦