ومع ذلك فإن الرجل باع ما يملك في القرية ونزح إلى الإسكندرية ليكون قريبًا مني وأنا أتلقى العلم الديني في أولى حلقات السلسلة الدراسية الطويلة للأزهر الشريف.. إن هذا الأب مثل الألوف من المسلمين الذين وثقوا بالقرآن أواصرهم، ونذروا له أولادهم. إنهم لم يربطوا حاضرهم وحسب بهذا الكتاب، بل أبقوه في أعقابهم. فيومهم وغدهم سواء في الزلفى إلى الله وطول التأميل فيه... ولقد عرفت في شخصي: ما هي الوسائل التي اصطنعها القدر الأعلى لصيانة التواتر الذي اختص به هذا الوحي الخاتم. بذرة من الحب يلقيها الله في فؤاد من يختار، فإذا هو يكرس نفسه وماله لخدمة القرآن واستدامة شعاعه بين الناس..!! إن هذا الطراز من المؤمنين يجب أن نحتفي به، وأن نسارع في هواه، وأن نعينه على إدراك ما يبغي لأنه طراز كريم مجيد!! على أن برامج تعليم القرآن بحاجة إلى مراجعة واعتناء- كما أسلفت في المقدمة- بل إن برامج التعليم والتربية في الأمة الإسلامية كلها بحاجة إلى درس وتهذيب وانتقاء، إذا كنا حقًّا حملة رسالة وأصحاب حضارة... ولأعد إلى ذكريات الطفولة، أعني ذكريات لا الكتاب " و لا الفقيه " و لا العصا"... لقد استطعت- كعدد كبير من الأولاد الصغار- أن أحفظ القرآن كله وأنا ابن عشر سنين. وبديهي أن يكون المسجل في ذاكرتي هو " الشكل " لا الموضوع، الألفاظ لا المعاني، هو الصور البادية للقرآن لا السور المفعمة بالروح والنور والقوة. لقد نقشت في أذهاننا أوائل الصفحات في المصحف الذي كنا ننقل عنه لنكتب في ألواحنا، فسورة آل عمران في الصفحة اليمنى بعد أسطر من تمام سورة البقرة، وسورة الأنعام مثلاً في الصفحة اليسرى لأن ختام المائدة استغرق الصفحة اليمنى بأجمعها. ص _٢٢٧