كانت طبعة واحدة هي التي تشيع بيننا. وقد اختلفت الآن الطبعات، بيد أن أحبها إلى النفس ما وضعناه بين أيدينا فذكرنا بأيامنا الأولى.. ويقترن بحفظنا للحروف وحدها أن ملابسات هذا الحفظ ارتسمت هي الأخرى في أذهانا، أو بتعبير أصح في مشاعرنا. فمع الحشد الهائل من الآيات التي حشيت بها عقولنا، أجد في نفسي عواطف شتى تكتنف هذا التراث المحفوظ. هناك حزن أو فرح. أمن أو قلق، حر أو برد!، أجل حر أو برد تثب إلى الذهب ذكراه حين أقرأ بعض السور..! فربما وقع تعلمنا لإحدى السور في فصل الصيف أو رقدة الظهيرة بالتحديد والعرق يتحدر على الجباه، والجو يكتم الأنفاس ويهيج الأعصاب والفقيه الغضوب لا يتسامح في عثرة لسان، ولا يقبل وقفة قصيرة حين تسميع... وهنا تهتز العصا وتعمل عملها في إلهاب الجلود. والأهل لا يسمعون إلى شكوى من هذه القسوة، فإن الكلمة المأثورة لديهم: " عصا الفقيه من الجنة ".!! وأشهد أني عشت أمدًا طويلاً وأنا عندما أتلو القرآن لا أعي إلا ترديد ما استحفظت، مقترنًا بألوان من الغموض، أو الرهبة، أو الارتياح أو السرور حسب ما علق بالنفس من مشاعر قديمة... أما معنى القرآن فمن لي بها؟! ومن أين أتعرفها؟! إنني كما قلت: حفظت القرآن وأنا طفل. والغريب أن عوام المسلمين، وأشباه العوام من المتعلمين أطفال في تصورهم للقرآن وفي فهمهم له وفي أخذهم به.. أجل هم أطفال ولو طرت لهم شوارب ونبتت لحى، وهذه الطفولة هي التي تجعلهم يسمعون آيات الله فيخرون عليها صمًّا وعميانًا.. ص _٢ ص