الحق أن الوجود الإنساني منذ الأزل لم يعرف كتابًا توفرت له ضمانات الحفظ، وتظاهرت حوله أسباب العصمة، مثل ما عرف لهذا القرآن الكريم. إن التواتر القوي يشد أسانيده من كل ناحية! جماهير كثيفة تروي عن جماهير كثيفة، وتبلغ في الاستقصاء أن تحصي كلمات السور، بل تعد حروف الهجاء الموجودة بها حرفًا حرفًا. وهذا على نقيض ما وقع لديانات أخرى لم تلق أصولها ذرة من هذه العناية. ولنضرب النصرانية مثلاً لهذا التفاوت. إن البون بعيد بين الظروف التي مات فيها محمد، والظروف التي توفي فيها عيسى، كلا الرجلين نبي كريم، بلغ رسالات الله بأمانة ووفاء، غير أن الإسلام كان أسعد حظًّا ـ في النجاة من أعدائه، والغلب على مؤامراتهم ـ من المسيحية التي تعرضت لخصومات عاصفة. كان عيسى بن مريم عليه السلام كأنما يقاتل في معركة غير متكافئة. لقد اعتبر هو وأتباعه خارجين على القانون السائد!!. وخروج المصلحين على العرف القائم، والتقاليد الموروثة أمر لا يضيرهم، بل قد يكون أساس شرفهم ومحور كرامتهم، وهنا يدور الصراع بين مبادئ ومبادئ، وجيل وجيل، ويحتدم النزاع بين الحق والباطل، ريثما تجيء النتائج الحاسمة. ويبدو أن الذين آمنوا بعيسى لم تكن لهم شوكة مرهوبة، إما لقلتهم، وإما لضعف شأنهم، وإما لقوة اليهود والرومان الذين تألبوا عليهم. ومن ثم جاء ختام هذا العراك مؤسف، فقد سير الرومان ثلة من رجال الشرطة ألقوا القبض على عيسى! وقتلوه كما يقول النصارى، وأفلت من أيديهم كما نعتقد نحن المسلمين، وطويت صحائف هذه الدعوة المضطهدة بهذا المصير الخطير! وتبدد الأتباع شذر مذر! وضاع الإنجيل الذي أنزله الله على نبيه فلم يعثر له على أثر إلى يوم الناس هذا. وكل ما أثر من تعاليمه بقايا أشاعها لفيف من كتاب سيرته بعد عشرات السنين من وفاته في أحوال تحفها الريب ويغلب عليها التخليط والخبط، وسميت هذه السير المؤلفة أناجيل. وليست هي البتة بالإنجيل الذي أنزل على نبي


الصفحة التالية
Icon