الله عيسى بن مريم!. ص _٠٣٢
شتان بين هذه الأحوال، وبين الأحوال التي اكتنفت صدر الإسلام، فإن أتباعه الأوائل ـ على ما شرحنا ـ صنعوا سياجًا من حديد حول دعوته. فلما حاول الباطل أن يفضها تكسرت أنيابه حول كيان مصفح شديد. وأخذت السنون تمر وأمر الإسلام في صعود، والرقعة التي يسودها تتسع، الأفواج التي تدخل فيه تنمو، وظل الوحي ينزل ثلاثًا وعشرين سنة مات الرسول آخرها بعد أن رمق المصلين في مسجده ثم استنار وجهه كأنه مذهبة. إن القرآن يتلى في محرابه، والجموع تنصت له في يقين وخشوع، والدنيا في طول الجزيرة وعرضها تدين له، والحياة الاجتماعية والسياسية تقوم عليه، أي أن الأمة والدولة كليهما سناد لهذا القرآن، وأشياع وحراس. وحدث عن كتاب أصبح روح شعب، ومراسيم حكومة.. إن العناية بأمره لن تحتاج إلى تكلف ولا استكراه. وقد بسطنا القول آنفًا أن القرآن نزل كله، وكتب كله، وحفظ كله على عهد الرسول، فلما استخلف أبو بكر وتولى شئون المسلمين عنَّ لأولي الأمر أن يجمعوا الوثائق التي سجلت فيها آيات الكتاب العزيز، وأن يضموا بعضها إلى بعض، ليكون من هذه الأصول المكتوبة بأمر رسول الله مصحف واحد، تحفظه "الدولة" لديها، وهو وإن أودع خزائنها لعدم الحاجة إليه في الحاضر؛ فإن المستقبل قد يتطلبه.. نعم لم تكن هناك حاجة عاجلة لهذا الجمع؛ فإن القراء كثرة مستفيضة، ورواية القرآن بالتلقي العام منتشرة بين جماهير المسلمين، والكتابة وحدها لا تكفي كما بينا في تعلم القرآن وتعليمه. ذلك أن ضبط الأداء كما جاء عن الرسول نفسه لا يكون إلا مشافهة، وهذا ما تظاهر المسلمون على حفظ القرآن به وإن جاءت الكتابة إلى جانبه سياجًا بعد سياج. وتذكر الروايات أن السبب المباشر في جمع القرآن - من وثائقه المكتوبة - هو توجس أبي بكر وعمر، لاستشهاد عدد كبير من الحفاظ في حروب الردة. ومقتل مئات من القراء أيام أبي بكر لا يضر بالقرآن شيئًا في يومه القريب؛ فإن


الصفحة التالية
Icon