ففي الوقت الذي بذل الملحدون فيه جهودهم لعبادة الوجود والإفادة من فرصة حياتهم فيه، واستثارة قواه الظاهرة والباطنة لمصلحتهم، كان المتدينون يقيمون في كهوف سحيقة وكأنما ابتلعوا جرعًا ثقيلة من الأفيون، فهم يتثاءبون في كسل ويفكرون في ذهول وغفلة. كانت في أوروبا جماهير متدينة تبغض الغسل، وتتعبد ببقاء الأوساخ على الجسم!، وكانت هنا وهناك أمم تحسب الجوع والعري والغربة في هذا الكون الكبير بعض أسباب القربى إلى الله!. والتأمل اليسير في القرآن الكريم يميط اللثام عن وجه الحق في قيمة الإنسان ووظيفته، ومنزلته ورسالته. فالإنسان في القرآن الكريم خليفة الله في أرضه. وقد تكررت قصة خلافته في كثير من السور متضمنة: أن الله جعله سيدًا يطع ويكرم، ومتضمنة: أن من يتجرأ على إهانته، ويتمرد على مكانته ليس بأهل لرحمة الله وبره. ومن هنا حكم على إبليس بالطرد والهوان. وما نزلت هذه العقوبة به إلا بسبب مخاصمته لآدم وذريته... ثم شرح القرآن الكريم طريق الخير لأبناء آدم، فجعل أساسه أن يحافظوا على فطرتهم، وأن يغسلوا عنها النكت والأقذار التي تعلو وجهها، حتى تبقى سليمة كما ذرأها الله. مثلما تغسل زجاجة المصباح إذا غشيتها الشوائب والأكدار، فيرتد إليها صفاؤها وينبعث إشراقها نقيًّا وضاء. التدين ليس استجلاب عناصر جديدة تزكو بها النفس، وإنما هو إقامة حصانات وضوابط لبقاء النفس على طبيعتها النقية وفطرتها الأصلية... وكل تدين فسدت فيه الفطرة فهو جملة تزويرات وأكاذيب!! ذلك. وقد ربط القرآن الإيمان بحسن النظر في الكون وطول التأمل في ملكوت الله. وهناك عشرات السور مفعمة بهذه المعاني، توثق صلات المؤمنين بهذا العالم العظيم، وتحض على استجلاء غوامضه، والغوص في أسراره. ص _٠٥٢


الصفحة التالية
Icon