وهذه الأوامر المتتابعة تدرجت في السعة والشمول حتى لم تبق أفقًا في الحياة العامة إلا طلعت عليه. إن الله ـ عز وجل ـ يأبى أن تكون صلته بخلقه ساعة كل أسبوع في معبد.. ساعة كأنما تسرق من أوقاتهم الطويلة، ثم ينطلقون بعدها في الحياة يصنعون ما يشتهون، وتبقى لهم حريتهم فيما يفعلون أو يتركون. إن السجين قد يؤذن له في ساعة ترويح عن نفسه، ولا يعتبر بها حرًّا، والضيف قد يسمح له بدخول البيوت فترة ما، ولا يعتبر أبدًا صاحب الدار. والناس قد يقبلون الاتصال بالدين على هذا النحو العابر، ولكنهم ليسوا عند الله متدينين، والإسلام لم يجئ الحياة كي ما يلقى هذه المنزلة. كلا، فما غناء دين تحفظ له قيمة اسمية تافهة، ثم هو بمعزل عن حراك الحياة والأحياء؟ لقد قلنا: إنه لابد من السيطرة على البيئة كي نستطيع تكوين خلق نظيف، ولابد من السيطرة عليها كذلك لنضمن انتظام الأمور على نحو يصون المصلحة، ويحقق العدالة ويحمي الرسالة التي يناط بها شرف الأمة ووجودها المادي والمعنوي. ومن هنا رأينا القرآن يحتوي على قوانين شتى : منها: ما يتصل بسداد الديون، وتوثيق المعاملات. ومنها: ما ينظم الدخول والخروج في حجرات البيت الواحد. ومنها: ما يضمن تنفيذ وصاة الميت طبق ما عهد، ودون أي تغير. ومنها: ومنها... ولنجاوز هذه التشريعات الدقيقة- محتفظين بمالها من دلالات- ولننظر إلى المجتمع الكبير الذي يهتم القرآن به، وتطرد الآيات والسور لدعمه وكلاءته. إن تقرير الحق شيء جليل، ما في ذلك شك، ولكن الشيء الذي لا يقل عنه، بل قد يربو عليه... وصل هذا الحق بالحياة، ومد جذوره في أغوارها، وكسر فؤوس الحطابين قبل أن تتحرك لاقتلاعها. إن حقائق العقيدة والعبادة، وفضائل الأخلاق، وصوالح الأعمال قد تنتظم في قصائد جميلة السبك، وقد تظهر في أسفار وضيئة الطباعة، وقد تلقى في خطب مجودة العبارات، بيد أن ذلك كله لا يفني فتيلاً عن الحق، إذا كان زمام ص _٠٥٧