والعجيب أن هذا التعاق المفاجئ بالروحانية الخالصة، والمعنويات المجردة يجيئنا من الغرب!! من الأقطار التي تجتاحها عواصف مادية لا ينقطع لها هبوب، ولا تنقشع لها غيوم، ولا يستريح العالم يومًا من جشعها المسعور إلا ليواجه أيامًا نحسات، مليئة بالغيوم والكربات... وقد استخفت هذه الأجزية الآن من هذه الدروس والخطب، كأن الحديث عنها معرة! وابتعدت الألسنة والأقلام عن الخوض فيها لأن الناس ما يعنيهم إلا إصلاح حاضرهم فحسب، وأما الغد الذي فيه يبعثون فهم لا يفكرون فيه ولا يمهدون له... مع أن إصلاح هذا الحاضر لن يتم أبدًا إلا على ضوء الإيمان بيوم القيامة. وتأمل قول الله عز وجل :" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ". ذلك وقد أشرت في موضع آخر من كتبنا إلى أن وعظ المسلمين بالوعد والوعيد الأخرويين يحتاج إلى حذر ودقة. فإن أمتنا فرطت في شئون المعاش والمعاد جميعًا. والتماس الدواء لها كي تصح دينًا ودنيا ليس يحسنه أي خائض في ميادين النصح والتوجيه.. إن الجماعات التي تغلو في حب الدنيا وتستغرق في السعي لها، وتستبد بها الشهوات الجسمانية والنفسانية... ينبغي أن تعالج بترقيق القلوب، وأن يطول الحديث معها عن الدار الآخرة، وعن محاسن الجنة ومقابح النار... أما الجماعات التي تدب على الأرض لا تحسن تأثيل مال، ولا استنبات زرع ولا تصنيع معدن، والتي تسقط في الشهوات أحيانًا كما تسقط البهم المنتشرة في الحقول. هذه الجماعات التي لا يزيد بصرها بالحياة عن مواقع أقدامها، فلا تعرف الكون سرًّا، ولا تفقه من دنياها علمًا. ص _٠٨٤


الصفحة التالية
Icon