هذه الجماعات ما يجوز أن نشرح لها تفاصيل الدار الآخرة إلا بعد أن تدرك معالم الدار الأولى، وتدري كيف تعيش على أرضها، وتستظل بسمائها. فإذا وعت ما هي ؟ وكيف تستقبل حاضرها! علمت بعد كيف تستعد لغدها. وكثيرًا ما خطبت المسلمين في المساجد والأندية فكنت شديد الحيطة في توجيههم، أخشى إن ذكرتهم بالجنة والنار أن يفهموا من ذلك التذكير البقاء على خيبتهم في الدنيا، والزهد في إحراز خيرها، وامتلاك زمامها.. وأخشى إن ذكرتهم بالدنيا وضرورة السبق فيها، والمنافسة على ثرواتها وخيراتها، أن ينسوا الآخرة، وحسن التأهب لها. فما بد من سوق الكلام واضح الهدف بعيدًا عن الشبهة واللبس، وما بد من إخضاعه كمًّا وكيفًا لأحوال الخاطبين وأنواع العلل التي تفتك بهم، وتجرفهم بعيدًا عن الصراط المستقيم... إن التبشير بالروحانية في الوسط المادي مفهوم وتعليم المادية في الوسط الروحاني مقبول، لكن ما الموقف إذا عالجت مجتمعًا يفقد كيانه المادي والروحي معًا؟ إن إحياءه يتطلب طبيبًا واسع الأفق، عميق الخبرة، صناع اليد، كي لا يعالج مرضًا على حساب الآخر. طبيبًا يتسلل بين مظاهر العلتين ليحصر جراثيم كل على حدة، ثم يستعمل مبضعه في الاستئصال والتجميل حتى يسترد العافية المفقودة، ويستأصل الأدواء المتناقضة. تلك هي وظيفة الناصح الماهر حين يكلم المسلمين في الآخرة، وحين يوقظ همتهم للدنيا... أما الطبيعة الإنسانية العامة، فهي لا تستغني عن مذكر دائب التنبيه إلى أن الآخرة حق، وأن الذهول عنها جرم، وأن الانحصار في الدنيا غفلة. نعم فإن حب العاجلة خمر طغت بنشوتها على الكبار والصغار، فهم سكارى بما يحسون من خير وشر في هذه الدار. والدين يفقد ركنًا من حقيقته الكبرى حين يماشي هذه العربدة المجنونة، بل يفقد أركانه كلها. ص _٠٨٥


الصفحة التالية
Icon