وكم نحن بحاجة إلى صور منوعة تثبت في أنفسنا القيم الصحيحة للحياة والممات وما بعدهما.. ؟ اقرأ هذه الصورة من قلائد الأدب العربي، واترك عبرتها تتخلل فؤادك. قال صاحب الأمالي: " حدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه، قال: دفعت يومًا في تلمس بالبادية إلى واد خلاء لا أنيسي به إلا بيت منفرد. بفنائه أعنز، وقد ظمئت فيممته فسلمت، فإذا عجوز قد برزت كأنها نعامة راخم. فقلت: هل من ماء؟ فقالت: أولبن. فقلت: ما كانت بغيتي إلا الماء، فإذا يسر الله اللبن فإني إليه فقير. فقامت إلى قعب فأفرغت فيه ماء، ونظفت غسله، ثم جاءت إلى الأعنز فتغبرتهن حتى احتلبت قراب ملء القعب، ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وطفت ثمالته، كأنها غمامة بيضاء، ثم ناولتني إياه فشربت حتى امتلأت ريا واطمأننت، فقلت: إني أراك معتنزة في هذا الوادي الموحش، والحلة منك قريب، فلو انضمت إلى جنابهم، فأنست بهم؟ فقالت: يا ابن أخي إني لآنس بالوحشة، وأستريح إلى الوحدة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي الموحش، فأتذكر من عهدت، فكأني أخاطب أعيانهم، وأتراءى أشباحهم، وتتخيل إلي أندية رجالهم، وملاعب ولدانهم، ومندى أموالهم، والله يا ابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بشع الديدين بأهل أدواح وقباب، ونعم كالهضاب، وخيل كالذئاب، وفتيان كالرماح، يبارون الرياح، ويحمون الصباح فأحال عليهم الجلاء قما بفرقة، فأصبحت الآثار دارسة، والمحال طامسة، وكذلك سيرة الدهر فيمن وثق به. ص _٠٨٦


الصفحة التالية
Icon