هذا النوع من المخالفة لأمر الله يتلطف القرآن في مداواته، ويأخذ بيد صاحبه ليعاود نشاطه الأول في أداء حقوق الله وإنفاذ وصاياه. والمجتمعات التي تنجم فيها هذه المعاصي- وما يخلو مجتمع بشري من غبارها- لا تستهدف لعقاب عام، ولا تسقط من عين الله. إنها تشبه أي حقل زرعه صاحبه قطنًا أو قمحًا، فتنبت فيه أعشاب وحشائش لم يقصد ظهورها، بل إنه يعمل بهمة في اقتلاعها وحماية زراعته منها. وفي سور كثيرة من الكتاب الحكيم نرى المولى تبارك اسمه يتجاوز عن هذه السيئات، يعلن سعة رحمته لمن يلمون بشيء منها. أما النوع الأخير : فهو ذلك الشر المتعمد المستقر الذي تتوطأ الجماعة على فعله، وتتعاهد نماءه، وتجعل بقاءه جزءًا من حياتها، وتقيم العرف العام والتشريع المادي والأدبي على أساس منه. كالمجرم الذي يزرع أرضه بشجر الحشيش والأفيون، ويبقى طول السنة يتعهد ما غرس، وهو يعي أتم وعي ما سوف يقدم للناس من سموم. هذا النوع من العصيان لأوامر الله، والإهدار لحدوده، هو الذي نزلت الآيات بأعنف الترهيب منه، ووصفت بإيضاح مصاير الذين رتعوا فيه، وهي مصاير مشئومة يكتنفها الخراب والدمار. وحذرت الأخلاف أن يسيروا نحو الهاوية التي انزلق إليها أسلافهم. " أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ". إن الأمم الفاسدة تلتقي في أحوالها نعوت واحدة، قسوة لا ترق لضعف، وجحود لا يكترث بوعظ، وعكوف على الدنيا لا يهتم لما بعدها، ونسيان لله لا يبالي بحقه. وبقاء الأمم بهذه المثابة بلاء على العالم، وعلى العمران، وعلى المثل العليا، وضربات القدر القاصمة عندما تنزل بها تكون كحكم الإعدام عندما ينفذ في مجرم أثيم. ص _٠٩٠


الصفحة التالية
Icon