وكما يدل هذا القصص الموصول على حقيقة الدين، ويحدد تحديدًا حاسمًا الطريقة الوحيدة لمرضاة رب العالمين، كذلك يدل على طبائع الناس ووسائل علاجها، وسنن الله في عقابها أو معافاتها. فإن الإنسان هو الإنسان، من مائة قرن خلت إلى مائة قرن يلدها المستقبل المنظور- لو امتد أجل الحياة- لن تتغير طبيعته، ولن يتبدل جوهره. وقد تتغير وسائل تعبيره عما يهوى، وقد تتبدل مظاهر إشباعه لما يريد، ولكنه هو هو، إذا استكبر فلم يجد إلا خيشة خلقه تبختر فيها وخرج من كهفه مغرورًا، وعندما يرتقي العلم وتتحول البيئة يلبس المنمنم من نسج الآلات وينطلق في الميادين مزهوًّا... وإنك لتتأمل في قوم نوح من قبل الطوفان، أي من قبل ازدهار العمران فتراهم يرفضون رسالة نوح رفضًا ينضح بما يعتمل في قلوبهم من غيرة وحسد. " فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ". إن هذه الغريزة الرديئة الطافحة بالإثم لم تزد ولم تنقص من سبعين قرنًا إلى هذه الأيام التي تحيا فيها الآن... هي في قوم نوح صورة كاملة لما نراها في أنحاء الشرق والغرب. فإذا وعى القرآن قصص الأولين مع أنبيائهم، وجدد على الناس ذكرها بعد ما طوت الليالي أصحابها فلكي يداوي عللاً متشابهة... وقد كثرت القصص لتحصي جملة كبيرة من الأمراض الاجتماعية، وتستأصل جرثومتها بصنوف العبر وشتى النذر... إن الحضارات المندثرة كجثث الموتى قد يشرحها مبضع الطبيب ليتعرف أسباب هلاكها، وليضيف بهذه المعرفة حصانة جديدة إلى علم الطب، تتوقى بها الإنسانية ما تجهل من متاعب وآلام... والمجتمعات التي طواها الماضي، وهمدت تحت الثرى يجب إذا نضبت الحياة منها أن تتعرف كيف عاشت؟ وكيف تصادقت وتخاصمت؟ وهل تلاقت على جد أو مجون واستجابت للحق أو الباطل ؟ ص _٠٩٧


الصفحة التالية
Icon