ثانياً : التوفيق بين معنى الآية والحديث عند وجود التعارض الظاهري بينهما، ومن الأمثلة على ذلك:
قول ابن بطال - رحمه الله -: "فإن قال قائل: فإن قوله عليه السلام: ((لن يُدِخلَ أحدَكم عملُه الجنة)) يعارض قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ èp¨Ypgù:$# الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ قيل: ليس كما توهمت، ومعنى الحديث غير معنى الآية، أخبر النبي - ﷺ - في الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله، وإنما يدخلها العباد برحمة الله، وأخبر في الآية أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم، فمعنى الآية في ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها، ومعنى الحديث في الدخول في الجنة والخلود فيها، فلا تعارض بين شيء من ذلك.
فإن قيل: قد قال تعالى في سورة النحل: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ (#qè=نzôٹ$# الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ فأخبر أن دخول الجنة بالأعمال أيضاً، فالجواب: أن قوله: ﴿ (#qè=نzôٹ$# الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ كلام مجمَل يبينه الحديث، وتقديره: ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث.
وللجمع بين الحديث وبين الآيات وجه آخر هو: أن يكون الحديث مُفسِّراً للآيات، ويكون تقديرها: ﴿ وَتِلْكَ èp¨Ypgù:$# الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ و ﴿ (#qè=نzôٹ$# الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن فضله تعالى ورحمته لعباده في اقتسام المنازل في الجنة، كما هو في دخول الجنة لا ينفك منه حين ألهمهم ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاة الله عباده من رحمته وتفضله.." ا. هـ(١)
ثالثاً : استدلاله بالحديث على المعنى الراجح للآية، وهذا كثير الاستعمال عنده، ومن الأمثلة على ذلك:
٢٢/٣ قال ابن بطال –رحمه الله-: "وهذا الحديث( ) يفسر قوله تعالى: ؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟ •؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟ أنه: يأتي يحمله على رقبته ليكون أبلغ في فضيحته، وليتبين للأشهاد جنايته، وحسبك بهذا تعظيماً لإثم الغلول وتحذير أمته" ا. هـ (٥/٢٣٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدراسة :
اختلف العلماء في الأمر الذي يأتي به الغال يوم القيامة على ثلاثة أقوال:
القول الأول : إنه يأتي حاملاً إثم ما غل( ).
القول الثاني : إنه يرد عِوَض ما غل من حسناته( ).
القول الثالث : إنه يأتي بالشيء الذي غله حاملاً له على ظهره ورقبته، مُعذَباً بحمله وثقله، ومرعوباً بصوته، وموبَخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد( ).
وهذا القول هو الذي اختاره ابن بطال هنا، وهو أصح هذه الأقوال، قال ابن الجوزي: "وهو أصح لمكان الأثر الصحيح" ا. هـ( ) واختار هذا القول جمع من المفسرين كابن جرير( ) وابن عطية( )، والقرطبي( )، وغيرهم( ). قال الرازي: ".. وهو قول أكثر المفسرين.." ا. هـ( )
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
d ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا دouچ½zFy$#ur وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا $YY‹خg-B ﴾ (الأحزاب: ٥٧).
١٠٧/٢ قال ابن بطال -رحمه الله-: "وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ تأويله: الذين يؤذون أولياء الله(١)، وأولياء رسوله، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه في الإعراب، والمحذوف مراد.." ا. هـ. (١٠/٤٠٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدراسة :
أشار ابن بطال هنا إلى معنيين:
المعنى الأول : معنى قوله تعالى: ﴿ إِنْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ﴾ وقال فيه: يؤذون أولياء الله، وهذا تحريف باطل، والذي جعله يذهب إلى هذا التأويل؛ اعتقاده أن أذى المخلوقين لله مثل أذاهم لبعضهم البعض، والذي فيه إلحاق الضرر ببعضهم البعض، والصحيح من القول أن أذى المخلوق لله ليس فيه إلحاق ضرر بالله - عز وجل- لكمال قدرته سبحانه، وإنما يتأذى الله - عز وجل - من معصية ابن آدم أذى لا ضرر فيه.
والمعنى الصحيح لهذه الآية هو: أن بني آدم يؤذون الله بارتكابهم معاصيه، وما حرَّمه عليهم، -سواء كان ذلك بنسبة الولد لله، أو كان ذلك بالتصوير، أو كان ذلك بسب الدهر، أو غير ذلك من المعاصي-، كما نص على ذلك جمع من المفسرين(٢)، وهو قول جمهور العلماء(٣).
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) انظر: جامع البيان (١٠/٣٣٠)، والوسيط (٣/٤٨٢)، ولباب التأويل (٣/٤٣٦)، والتسهيل لعلوم التنزيل
(٢/١٥٨)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (٦/٢٨٥٩)، واللباب في علوم الكتاب (١٥/٥٨٨).
(٣) انظر: الجامع لأحكام القرآن (١٤/٢١١).