ثانياً: أن انفصال هذه الإمارات عن الدولة العباسية جعلها مستقلة في مالها لا ترسله إلى بغداد، وإنما تغدقه على أهلها والعلم دائماً يتأثر بالمال، فهذا جعل كثيراً من العلماء ينعمون في ظل هذا الاستقلال أكثر مما كانوا ينعمون به في ظل الوحدة(١).
لهذا فقد برز كثير من العلماء في هذا العصر في مختلف الفنون في العقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والنحو والأدب واللغة، ومن هؤلاء العلماء:
١- الإمام محمد بن جرير الطبري العلامة المتبحر، المتوفي سنة ٣١٠هـ، صاحب التفسير والتاريخ وغيره.
٢- الإمام الطحاوي، الفقيه، السلفي المتوفي سنة ٣٢١هـ.
٣- الأعمش، الحافظ، الحجة، المتوفى ٣٢١هـ.
٤- الحافظ العقيلي، صاحب كتاب ( الضعفاء ) المتوفي ٣٢٢هـ.
٥- الإمام ابن أبي حاتم الحافظ، صاحب الجرح والتعديل، المتوفي سنة ٣٢٧هـ.
٦- الحافظ الشاشي، أبو سعيد الهيثم، المحدث المتوفي سنة ٣٣٥هـ.
٧- الحافظ ابن حبان، المتوفي سنة ٣٥٤هـ.
٨- الإمام الطبراني، الحافظ، صاحب المعجم الكبير والصغير، المتوفي سنة ٣٦٠هـ.
٩- الإمام ابن عدي، الحافظ، الكبير، صاحب (الكامل في ضعفاء الرجال) المتوفي سنة ٣٦٥هـ.
١٠- الدارقطني المحدث الكبير، والناقد البصير، المتوفي سنة ٣٨٥هـ.
١١- الإمام أبو زرعة، الحافظ، الحجة، المتوفي سنة ٣٩٠هـ.
١٢- الإمام ابن مندة، الحافظ، صاحب كتاب ( الإيمان ) المتوفي سنة ٣٩٥هـ.
١٣- الإمام الآجري، الحافظ، صاحب كتاب الشريعة، المتوفي سنة ٣٩٥هـ.
١٤- الحافظ الحاكم، صاحب كتاب المستدرك، إمام المحدثين، المتوفي سنة ٤٠٥هـ.
١٥- الإمام اللامكائي، صاحب: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) المتوفي سنة ٤١٨هـ.
وغيرهم كثير كما هو مدون في كتب التراجم والسير.
توفي في جمادى الآخر سنة أربع وستين وثلاث مئة.(١)
تلاميذه:
لم تسم المصادر التي ترجمت له أحداً من تلامذته.
المبحث الثاني/ المطلب الخامس
مؤلفاته
لقد أثرى ابن خويز منداد المكتبات الإسلامية بمؤلفاته في فنون شتى مما يدل على سعة علمه إلا أن هذه المؤلفات لم يكتب الله لها البقاء لأنها مفقودة، وإنما بقي منها أسماؤها والذي ذكر منها الآتي:
١- أحكام القرآن(٢): وهو مؤلف في التفسير وهو من أهم المصادر التي اعتمدها بعض من ألف في التفسير، وعلوم القرآن كالقرطبي وكل من جاء بعد القرطبي فإنما ينقل أقوال ابن خويز منداد عن القرطبي كابن كثير والشوكاني والشنقيطي وغيرهم.
٢- وكتاب في الخلاف : وهو كتاب في الفقه جمع فيه مسائل الخلاف وقد وصفه المترجمون لابن خويز منداد بأن هذا الكتاب كبير(٣).
(٢) انظر: طبقات الفقهاء للشيرازي (صـ ١٦٨)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (٣/٦٠٦)، وتاريخ الإسلام للذهبي (صـ ٢١٧)، والديباج المذهب لابن فرحون (صـ ٤٦٨)، ولسان الميزان لابن حجر (٦/٣٥٢)، وطبقات المفسرين للداودي (٢/٧٢)، وشجرة النور الزكية (صـ ١٠٣)، والفكر السامي للحجوي (٢/١١٥).
(٣) انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (٢/٩٤٢)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (صـ ١٦٨)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (٣/٦٠٦)، وتاريخ الإسلام للذهبي (صـ ٢١٧)، والوفي بالوفيات للصفدي (٢/٥٢)، والديباج المذهب لابن فرحون (صـ ٢٦٨)، ولسان الميزان لابن حجر (٦/٣٥٢)، وطبقات الفسرين للداودي (٢/٧٢)، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف (صـ ١٠٣)، والفكر السامي للحجوي (٢/١١٥)، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (٣/٧٥).
وقال في موضع آخر :﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾ الأنعام : الآية ١٤٥. فحرم المسفوح من الدم، وقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله - ﷺ - تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره "(١). لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع، وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الأمة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك"(٢).
ومن الأمثلة كذلك: عند قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ البقرة : الآية ٨٥.
قال: " تضمنت الآية، وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي - ﷺ - أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع "(٣).
٢- أنه أحياناً يقدم الدليل من السنة على القرآن، وذلك إذا كان الدليل من السنة صريح، وأما القرآن فبالمفهوم فيقدم المنطوق على المفهوم في الاستدلال، فمثلاً:
عند قوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ النساء: الآية ٢٤.
قال: " لا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة، لأن الرسول - ﷺ نهى عن نكاح المتعة وحرمه، ولأن الله تعالى قال: ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾ النساء : الآية ٢٥.
ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك"(٤).
(٢) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ٢/٢١٧).
(٣) انظر : المصدر السابق ( ٢/٢٦).
(٤) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ٥/١٢٥).
وذهب آخرون إلى: أن ابتداء اللغات توقيفي والباقي يحتمل أن يكون اصطلاحياً(١)، ويحتمل أن يكون توقيفياً.
قال بهذا القول: أبو إسحاق الاسفرائيني(٢).
القول الثالث:
وذهبت المعتزلة إلى أنها كلها اصطلاحية.
القول الرابع:
وذهب آخرون إلى تجويز كل واحد من هذه الأقوال؛ من غير جزم بأحدها، وهذا يسمى مذهب التوقف.
وقيل غير ذلك(٣).
القول الراجح:
والذي يظهر أن الراجح هو القول الأول، لأنه الأوفق لظاهر النصوص، وهو: إن اللغة توقيفية ثم يليه القول الثاني، وهو: إن ابتداء اللغات توقيفي، والباقي يحتمل أن يكون اصطلاحياً ويحتمل أن يكون توقيفياً.
(٢) انظر: الإشارات الإلهية (٣/١١٧).... وأبو إسحاق هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفرائيني، الفقيه الشافعي المتكلم الأصولي، له تصانيف جليلة، توفي يوم عاشوراء سنة ٤١٨هـ. انظر: اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير الجزري (١/٥٥)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (١/٢٨).
(٣) للنظر في هذه الأقوال، انظر: المستصفى للغزالي (١/٢٢٤)، والواضح في أصول الفقه لابن عقيل (١/٣٦٤)، والمحصول للرازي (١/١٨٤)، وروضة الناظر لابن قدامة (١/٥٤٣)، وإرشاد الفحول للشوكاني (١/٩٨)، والمزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي (١/٢٠).
٣/ قال ابن العربي: (وأصل المسألة الذي تدور عليه أن الحين المجهول لا يتعلق به حكم، والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف، وأكثر المعلوم سنة)(١).
القول الثالث:
إن الحين ليس له غاية، أي: أن الحين يكون مدة الدنيا كلها وما هو أقل منها.
قال به: الشافعية(٢)، وابن حزم(٣).
قال الشافعي: "لا نحنثه أبداً؛ والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم"(٤).
قال الكيا الهراسي: "الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين"(٥).
قال ابن حزم: "ومن حلف ألا يفعل أمر كذا حيناً.. فبقى مقدار طرفة عين لم يفعله ثم فعله فلا حنث عليه"(٦).
القول الرابع: إن الحين في هذه المسألة ينصرف إلى: (شهرين).
قال بهذا: سعيد بن المسيب.
واحتج بقوله تعالى :﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ إبراهيم: ٢٥، قال هي: النخلة لا يكون منها أكلها إلا شهرين فالحين شهران(٧).
القول الراجح:
الذي أرجحه - والعلم عند الله- هو القول الأول وهو: أن من حلف ألا يكلم فلاناً حيناً فإن الحين ينصرف إلى: ستة أشهر. وذلك لأن عليه فتوى ابن عباس
-رضي الله عنهما- وقد ثبت بإسناد حسن عنه، ولم يخالف نصاً ولا خالفه أحد من الصحابة، قال ابن تيمية: "ومن قال من العلماء: إن قول الصحابي حجة فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه"(٨). وهذا ما عليه جمهور الأئمة(٩).
(٢) انظر: الأم (٧/٨١).
(٣) انظر: المحلى بالآثار (٥/٣١٩)......................
(٤) انظر: الأم (٧/٨١).
(٥) أحكام القرآن (٣/٢٣٨)......................
(٦) انظر: المحلى (٥/٣١٩).
(٧) انظر: تفسير الطبري (١٣/٦٥٠).
(٨) مجموع الفتاوى (١/٢٨٣)، وانظر: إعلام الموقعين (٥/٤٥٤) وما بعدها، فقد فصل الكلام في هذه المسألة تفصيلاً يغني عما سواه.
(٩) إعلام الموقعين (٥/٥٥٠).
وروى أبو داود في سننه، عن عوف بن مالك الأشجعي(١)، قال أتيت رسول الله
- ﷺ - في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فسلمت، فرد، وقال: "ادخل" فقلت : أكلي. يا رسول الله؟ قال: "كلك" فدخلت.(٢)وغيرها كثير.
وقال علي بن أبي طالب: "أجموا(٣)هذه القلوب، فإنها تمل كما تمل الأبدان"(٤).
وكذلك ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يمزحون من ذلك:
كان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك"(٥).
(٢) رواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح، حـ ٥٠٠٠، موسوعة الحديث الشريف ص(١٥٨٩)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (٣/٢٢٨) برقم: (٤٩٩٨).
(٣) معنى أجموا: الجمام: الراحة، يقال أجم نفسك يوماً أو يومين، أي: أرحها. انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (١/٦٥٨) مادة: (جمم) دار المعرفة، والنهاية لابن الأثير (ص١٦٦).
(٤) انظر: شرح السنة للبغوي (١٣/١٨٤).
(٥) الآداب الشرعية لابن مفلح (٢/٢١٤). وابن سيرين هو: محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، أبو بكر تابعي إمام، مولى أنس بن مالك خادم رسول الله - ﷺ -، كان فقيهاً عالماً ورعاً أديباً، كثير الحديث، صدوقاً، شهد له أهل العلم والفضل بذلك، وهو حجة، توفي سنة ١١٠هـ عن ٧٧ سنة. انظر: حلية الأولياء (٢/٢٦٣)، وشذرات الذهب لابن العماد (١/٢٤٦)، وسير أعلام النبلاء (٤/٦٠٦).
قال ابن رجب: "وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، فقد رأى النبي - ﷺ - رجلاً قائماً في الشمس.." وذكر الحديث ثم قال: "فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرهما... مع أن القيام عبادة في موضع أخر، كالصلاة والآذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم(١)، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها"(٢).
وقال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "فيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة، كالمشي حافياً والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله فلا ينعقد به النذر، فإنه أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل"(٣).
٢- حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: أن الرسول - ﷺ - قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(٤).
قال النووي: "هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع الكلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات"(٥).
(٢) جامع العلوم والحكم (١/١٧٨).
(٣) فتح الباري (١١/٧١٩).
(٤) سبق تخريجه.
(٥) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (١٢/٢٤٢).
وقد نقل غير واحد من العلماء اتفاق أئمة الفتوى على القول بقول الجمهور كابن بطال(١)، والقاضي عياض(٢)، والنووي (٣)، قالوا: لأنه جاء في رواية عن النبي - ﷺ -: "مامن ص(٤) كنز لا يؤدي زكاته..." وذكر عقابه(٤)؛ فقد جاء مفسراً، وفي الحديث الآخر:
" إذا لم يؤد المرء حق الله أو الصدقة في إبله" (٥) وذكر الحديث.
وفي الحديث الآخر: "من آتاه الله مالاً لم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع" وفي آخره: "فيقول أنا كنزك"(٦) الحديث.
وقال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصحة.. أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعيد الله إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب في الزكاة... " ثم ذكر حديثا في وعيد مانع الزكاة ثم قال:" وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها للدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها" (٧).
ويحمل قول أبي ذر على أنه أراد الأفضل لا الواجب(٨).
(٢) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (٣/٤٩٨-٤٩٩).
(٣) انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (٧/٧٩).
(٤) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، حـ ٩٨٧، موسوعة الحديث الشريف (ص٨٣٣).
(٥) رواه مسلم في المكان نفسه. موسوعة الحديث الشريف (ص٨٣٤).
(٦) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، حـ ١٤٠٣، موسوعة الحديث الشريف (ص١١٠).
(٧) تفسير الطبري (١١/٤٣٢).
(٨) انظر: الكشاف (٢/٢٦٨).
أن النبي- ﷺ - صرح بأن وجود صفات أحدهما في الآخر يدل على أنهما من نسب واحد، فقد حكم به النبي - ﷺ - للذي أشبهه منهما، وقوله:(لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه إلا الأيمان فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه(١)٣).
ثانياً: قال ابن عثيمين: "إن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - كان لها حين هجرة النبي - ﷺ - سبع وعشرين سنة. فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم - في ثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين، والله أعلم(١).
ثالثاً: وعلى فرض صحته فيحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب(٢).
واستدلوا بأدلة أخرى كثيرة كلها تدور بين ضعف في الدليل، أو الاستدلال، وقد أجاب عنها العلماء المحققين بما يشفي(٣).
القول الراجح:
القول الراجح، هو: قول من فسر الزينة الظاهرة في قوله: ﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ بالثياب، وهو قول ابن مسعود ومن تابعه، وذلك لأسباب:
١ ١- لأن أدلة وجوب الحجاب ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشف الوجه مبقية على
الأصل، والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين، لأن مع الناقل زيادة علم وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي، والمثبت مقدم على النافي(٤).
٢- أنه يترتب - ولابد - على ظهور الوجه والكفين فساد وفتنة، ولا خلاف بين أهل العلم حتى المبيحين لظهورهما أنه لا يجوز ظهورهما مع عدم أمن الفتنة، وقد نقل الشوكاني الاتفاق على ذلك(٥).
(٢) انظر: المغني (٩/٥٠٠)، وأضواء البيان (٦/٣٩٢).
(٣) للنظر في أدلة القائلين بجواز كشف الوجه والكفين وأجوبة العلماء عليها، ينظر: أضواء البيان (٦/٣٩٢)، ورسالة الحجاب لابن عثيمين (ص٢٥-٣٢)، وقد جمعها محمد المقدم في عودة الحجاب (٣/٣٣٦-٤١٦).
(٤) انظر: رسالة الحجاب لابن عثيمين (ص٢٧).
(٥) انظر: نيل الأوطار (٦/١١٨).
١- ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - ﷺ - يخطب يوم الجمعة، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أن يسقينا، فدعا؛ فمطرنا، فما كدنا أن نصل إلى منازلنا فما زلنا نمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، فادع الله أن يصرفه عنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "اللهم حوالينا ولا علينا" فلقد رأيت السحاب يتقطع يميناً وشمالاً، يمطرون ولا يمطر أهل المدينة"(١)١).
وجه الدلالة من الحديث:
أنه - ﷺ -لم يسجد لتجدد نعمة المطر أولاً، ولا لدفعه آخراً(٢)٢).
ويجاب عن هذا الاستدلال بالآتي:
أن النبي - ﷺ - تركه أحياناً لبيان أنه سنة وليس فرضاً، فيجوز تركه أحياناً.
أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان على المنبر، وفي السجود حينئذٍ مشقة فتركه لأجل المشقة(٣)٣).
٢- إن البشارات كانت تأتي النبي - صلى الله عليه وسلم- والأئمة بعده، ولم ينقل عن أحد منهم أنه سجد سجدة الشكر، ولو فعلوا لنقل إلينا لحاجة العامة إليه، وكونه قربه.
(٢) انظر: المجموع للنووي (٣/٥٦٦).
(٣) انظر: المغني لابن قدامة (٢/٣٧٢)، والمجموع للنووي (٣/٥٦٦).
١٢٢)... حاشية الجمل، لسليمان منصور الجمل العجيلي، دار الفكر، بيروت.
(١٢٣)... حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد بن أحمد عرفة الدسوقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة (عيسى الحلبي وشركاؤه).
(١٢٤)... الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع وبيان خطرها، لعبد المحسن العباد البدر، مطبعة سفير، الرياض، ط١، ١٤٢٥هـ.
(١٢٥)... الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، لجنة التأليف والترجمة، ط٣.
(١٢٦)... حكم السفور والحجاب، لعبد العزيز بن عبد الله بن باز، مطابع الحميضي، الرياض، ط٦، ١٤١٨هـ.
(١٢٧)... حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٣، ١٤٠٠هـ، ومطبعة السعادة، مصر، ط١، ١٣٩٩هـ.
(١٢٨)... الحوادث والبدع، لأبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، دار ابن الجوزي، الدمام، ط٣، ١٤١٩هـ، تحقيق: علي بن حسن بن علي الحلبي الأثري.
(١٢٩)... خزانة الأدب، لعبد القادر البغدادي، دار الرفاعي، الرياض، ط٣، ١٤٠٩هـ.
(١٣٠)... الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤٢١هـ، توزيع: مكتبة عباس أحمد الباز، مكة المكرمة.
(١٣١)... درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط١، ١٤٠١هـ، تحقيق: محمود رشاد سالم.
(١٣٢)... درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، لعلي بن حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١١هـ.
(١٣٣)... الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط٦، ١٤١٧هـ.
(١٣٤)... الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني، أم القرى، القاهرة، تحقيق: محمد سيد جاد الحق.
(١٣٥)... دفع إيهام الإضطراب عن آي الكتاب، الملحق بأضواء البيان، لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١٧هـ.