وكانت معظم الدروس العلمية تعطى في المسجد على هيئة حلقات، ومن أبرزها في بغداد جامع المنصور، وكان أقدم مسجد جامع بها، وأشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية.
ومنها المسجد الجامع بالقاهرة، وكان يقام فيه في وقت العشاء مائة وعشرة مجلس من مجالس العلم(١).
وكان في كل جامع كبير مكتبة حيث كان من عادة العلماء أنهم يوقفون كتبهم على المساجد.
ومما شجع على نشر العلم أن الملوك كانوا يفاخرون بجمع الكتب حتى كان لكل ملك من ملوك الدول الكبار وهي مصر، وقرطبة، وبغداد ولع شديد بالكتب.
وكذلك من أبرز أسباب نمو العلوم وازدهارها في هذا القرن، انتشار المراكز العلمية التي كانت تحتوي على المكتبات الكبيرة في جميع الولايات الإسلامية المختلفة التي يستفيد منها طلاب العلم، حيث كانت مزودة بأصناف الكتب في مختلف العلوم والفنون، كما زودت بالأدوات اللازمة لطالب العلم من حبر وورق ونحوها ومن أمثلة هذه المراكز:
١- دار العلم، وتلقب أيضاً بدار الحكمة في القاهرة، فقد زودت هذه الدار بما تحتاج إليه من أقلام وورق وحبر، وفرش، وعلقت على أبوابها وممراتها أنواع الكتب في النحو واللغة والطب وغيرها ودخل سائر الناس إليها يقرءون وينسخون، وأقيم لها خُزَّان وبوابون(٢).
٢- دار العلم بنيسابور: أسسها الحافظ ابن حبان المتوفي سنة ٣٥٤هـ، جعل فيها خزانة الكتب، ومساكن للغرباء الذين يطلبون العلم وأجرى لهم الأرزاق(٣).
٣- دار العلم في الموصل: أسسها جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي المتوفي سنة ٣٢٣هـ، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم ولا يمنع أحد من دخولها وإذا جاءها طالب علم غريب معسر أعطاه ورقاً ورزقاً معونة له على طلب العلم(٤).
(٢) انظر: الحضارة الإسلامية ( ١/٣١٣).
(٣) انظر: المصدر السابق (١/٣١١).
(٤) انظر: المصدر السابق في المكان نفسه.
٣- الجامع لأصول الفقه(١): وهو مؤلف في أصول الفقه وقد اعتمده غير واحد من المالكية في أصولهم كالباجي(٢)، والزركشي(٣)، والقرافي(٤).
المبحث الثاني/ المطلب السادس
عقيدته، ومذهبه الفقهي
عقيدته: لم تتعرض الكتب المترجمة له لعقيدته وبما أن بن خويز منداد مالكي فقد تأثر بإمامة الإمام مالك خصوصاً في العقيدة وبطريقته في التعامل مع المخالف من أهل البدع، فاستفاد من إمامه العقيدة السليمة الصافية من الشوائب الموافقة لعقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، ويتجلى ذلك في النقولات التي نقلها عنه أهل العلم، على الرغم من قلتها وكونها لم تستوعب كل الجوانب الأساسية التي تبين عقيدة العالم المترجم له، إلا أنها مهمة وتدل على سلامة معتقده وتشير إلى سلامته من بدع الفرق المبتدعة كالأشعرية والمعتزلة ونحوهم وأيضاً سلامته من بدعة الخوارج وأمثالهم، فما نقل عنه يشير من باب أولى إلى أن أصوله العقدية توافق أصول السلف الصالح أهل السنة والجماعة من ذلك:
١- ما نقل عنه في موقفه من أهل البدع والأهواء، وأهل الكلام ونحوهم، حيث قال:
(صـ ٢١٧)، والصواعق المرسلة لابن القيم (٢/٤٥٧)، والوافي بالوفيات للصفدي (٢/٥٢)، والديباج المذهب لابن فرحون (صـ ٢٦٨)، ولسان الميزان لابن حجر ( ٦/٣٥٢)، وطبقات المفسرين للداودي (٢/٧٢)، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف (صـ ١٠٣)، والفكر السامي للحجوي ( ٢/١١٥)، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ( ٣/٧٥).
(٢) انظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق عبدالله الجبوري، وقد نقل عن ابن خويز منداد في مواضع كثيرة، مثلاً (ص ٨٩، ، ٩٢، ٩٧، ١٠٤، ١٠٨) وغيرها كثير.
(٣) انظر : البحر المحيط ( ١/٨).
(٤) انظر : الإبانة في صحة إسقاط ما لم يجب الحضانة وسماه: (الجامع لأصول المذهب) (صـ ١٠١).
٣- أنه يحمل النصوص من الكتاب والسنة على العموم إلا إن وجد دليل مخصص فمثلاً:
عند قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) ﴾ البقرة : الآية ٢٧١.
قال :" وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوع، لأنه ذكر الإخفاء ومدحه، والإظهار ومدحه، فيجوز أن يتوجه إليهما جميعاً "(١).
٤- أنه يستدل بظاهر النصوص إلا إذا وجد دليل صارف، فمثلاًُ:
عند قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ البقرة : الآية ٢٨٦.
قال: "ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها فهو نحو قوله
تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ الحج : الآية ٧٨.
كقول النبي - ﷺ - :" الدين يسر فيسروا ولا تعسروا "(٢)"(٣).
ومن الأمثلة على عدم استدلاله بظاهر النص عند وجود الدليل الصارف : عند قوله
تعالى: ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (١٠٩) ﴾ الإسراء : ١٠٩.
قال: "لا يجوز السجود على الذقن، لأن الذقن ها هنا عبارة عن الوجه وقد يعبر بالشيء عما جاوره وببعضه عن جميعه، فيقال: خر لوجهه ساجداً، وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه، ألا ترى إلى قوله: فخر صريعاً لليدين وللفم فإنما أراد: خر صريعاً على وجهه ويديه(٤).
٥- أنه يستنبط الحكم من مفهوم الآية أحياناً، فمثلاً:
(٢) سيأتي تخريجه عند دراسة هذه المسألة.
(٣) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ٣/٤١٢).
(٤) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ١٠/٢٩٦-٢٩٧).
قال أبو منصور البغدادي(١): "قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين: إنها - أي اللغات - كلها توقيفية من الله"(٢).
قال القرطبي في تفسيره: "الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له قال تعالى :﴿ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ البقرة : ٣١. واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته"(٣).
فمن أخرج اللغات من هذا العموم فعليه بالدليل، وإلا فقوله مردود.
وعلى كل حال فهذه المسألة كما قال ابن قدامة: "لا يرتبط به تعبد عملي، ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة، فالخوض فيه فضول فلا حاجة إلى التطويل"(٤).
والله أعلم.
(٢) نقله عنه الزركشي في البحر المحيط (٢/١٦) من كتابه: (شرح الأسماء)، ولم استطع التوصل للكتاب، ولعله مفقود.
(٣) ١/٣٢٥).
(٤) روضة الناظر (٢/٥٤٥).
وقال ابن القيم: "إذا لم يكن في الواقعة حديث عن النبي - ﷺ - ولا اختلاف بين الصحابة - رضي الله عنهم - وإنما قال بعضهم فيها قولاً وأفتى بفتيا، ولم يعلم أن قوله وفتياه أشهر في الباقين ولا أنهم خالفوه، وحينئذ فنقول: من تأمل المسائل الفقهية والحوادث الفرعية، وتدرب بمسالكها، وتصرف في مداركها، وسلك سبلها ذللاً، وارتوى من مواردها عللاً ونَهَلا، علم قطعاً أن كثيراً منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي، بحيث لا يوثق فيها بظاهر مراد، أو قياس صحيح ينشرح له الصدر، ويثلج له الفؤاد، بل تتعارض فيها الظواهر والأقيسة، على وجه يقف المجتهد في أكثر المواضع حتى لا يبقى للظن رجحان بين، لا سيما إذا اختلف الفقهاء فإن عقولهم من أكمل العقول وأوفرها، فإذا تلددوا وتوقفوا ولم يتقدموا ولم يتأخروا؛ لم يكن ذلك في المسألة طريقة واضحة ولا حجة لائحة، فإذا وجد فيها قول لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم - الذين هم سادات الأمة وقدوة الأئمة، وأعلم الناس بكتاب ربهم تعالى، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم- وقد شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، ونسبة من بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدين، كان الظن والحالة هذه بأن الصواب في جهتهم، والحق في جانبهم من أقوى الظنون، وهو أقوى من الظن المستفاد من كثير من الأقيسة، هذا ما لا يمتري فيه عاقل منصف، وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو السداد الذي لا رأي سواه"(١).
فتبين أن قول ابن خويز منداد في هذه المسألة مرجوح.
والله أعلم.
ومزح الشعبي يوماً، فقيل له: يا أبا عمرو أتمزح؟ قال: "إن لم يكن هذا متنا من الغم"(١).
وقيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟ قال: "بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه"(٢).
أما ما ورد عن السلف من ذم المزاح وكراهته، كقول عمر بن عبد العزيز: "اتقوا المزاح فإنها حمقة تورث ضغينة"(٣).
انظر: التاريخ الكبير للبخاري (٦/٢٤١)، وتاريخ بغداد (١٢/٢٢٢)، والبداية والنهاية(٩/٢٧٠).
(٢) انظر: شرح السنة للبغوي (١٣/١٨٤). ومعنى هجنة: الهجنة - بالضم- من الكلام ما يعيبه، وفي العلم إضاعته، والهجين اللئيم، والتهجين: التقبيح. انظر: القاموس المحيط (ص١٦٠٠) مادة: (هجن).
(٣) انظر: أدب الدنيا والدين لعلي الماوردي (ص٣١٠).
وقال ابن رجب: "هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: "الأعمال بالبنيات"(١)، ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله - تعالى - فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به رسول الله - ﷺ -، فليس من الدين في شيء.. وقوله: "ليس عليه أمرنا" إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جارياً تحت أحكام الشرع، موافقاً لها، فهو مقبول، ومن كان خارجاً عن ذلك، فهو مردود. والأعمال قسمان:
عبادات، ومعاملات. فأما العبادات فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية، فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢١) ﴾ الشورى: ٢١. فمن تقرب إلى الله بعمل، لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه"(٢).
وقال ابن حجر: "وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه"(٣).
(٢) جامع العلوم والحكم (١/١٧٧-١٧٨).
(٣) فتح الباري (٥/٣٧٢).
ثالثاً: وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان عتبة بن أبي وقاص(١)١) عهد إلى أخيه سعد - رضي الله عنه - أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال: ابن أخي عهد إلى فيه فقام عبد بن زمعة(٢)٢) فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا(٣)٣) إلى النبي - ﷺ - فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إليَّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- :" هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر" ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله"(٤)٤).
وجه الدلالة من الحديث:
(٢) عبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشي العامري، أخو سودة أم المؤمنين صحابي شهير كان ذا دار بالمدينة أسلم يوم فتح مكة وكان من سادات الصحابة. انظر: الاستيعاب (٢/٨٢٠)، والإصابة (٤/٣٢٢)، والتحفة اللطيفة للسخاوي (٢/٢٢٥).
(٣) فتساوقا: أي تلازما في الذهاب بحيث أن كلاً منهما كان كالذي يسوق الآخر. انظر: فتح الباري(١٢/٤٤).
(٤) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب الولد للفراش، حـ٦٧٤٩. موسوعة الحديث الشريف (ص٥٦٤). ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب الولد للفراش، حـ١٤٥٧. موسوعة الحديث الشريف (ص٩٢٤).
قال الشنقيطي بعد ترجيحه لقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر لأنه هو أحوط الأقوال، وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها، ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم، والجاري على قواعد الشرع الكريم، هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي"(١).
وهذا ما بينه ابن خويز منداد في أنه إن خيفت الفتنة من ظهور الوجه والكفين فعلى المرأة سترهما.
٣- رغم خلاف العلماء في مسألة احتجاب المرأة، إلا أنهم مجمعون على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، ونقل ابن حجر عن ابن المنذر(٢)أنه قال: "أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها، إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال"(٣).
٤- أن الحجاب الكامل للمرأة هو الأصل في هيئة المرأة المسلمة في جميع العصور، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كانت سنة المؤمنين في زمن النبي - ﷺ - وخلفائه، أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز"(٤).
وقال: "كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء"(٥).
وقال ابن حجر: "استمر العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق، والأسفار، منتقبات لئلا يراهن الرجال"(٦).
وباتفاق المسلمين أن النساء يمنعن من الخروج سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق(٧).
والله أعلم.
(٢) لم أقف على حكاية ابن المنذر الإجماع في هذه المسالة في كتابه: (الإجماع)، لذلك اعتمدت نقل ابن حجر عنه.
(٣) انظر: فتح الباري (٣/٥١١).
(٤) مجموع الفتاوى (١٥/٣٧٢).
(٥) المصدر السابق (٣/٣٧٣).
(٦) فتح الباري (٩/٤١٨).
(٧) انظر: روضة الطالبين (٧/٢١)، ونيل الأوطار (٦/١١٨).
وقد سئل الإمام مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله شكراً، فقال:" لا يفعل، ليس مما مضى من أمر الناس، فقيل له: إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - سجد يوم اليمامة شكراً لله، أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر..."(١)٤). فالإمام مالك لم ير سجود الشكر مما شرع في الدين فرضاً ولا نفلاً.
و يجاب عن هذا بالآتي:
أنه قد ثبت عن النبي - ﷺ - وأصحابه - رضوان الله عليهم- والأئمة من بعدهم؛ أنهم يسجدون لله شكراً عند تجدد النعم، وسبق ذكر الأدلة على ذلك وكلها ثابتة، فبطل هذا القول.
ولعل أصحاب هذا القول لم تبلغهم الأحاديث الثابتة في ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، أو أنهم لم يروا ثبوتها والصحيح أنها ثابتة.
قال الشوكاني بعد أن ذكر مذهب أبي حنيفة والإمام مالك في سجدة الشكر: "وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي - ﷺ - من مثل هذين الإمامين مع وروده عنه - ﷺ - وذكرناها من الغرائب"(٢)١).
٣- إنها لو وجبت لوجبت في كل لحظة لأن نعم الله على عبده متواترة، وفيه تكليف ما لا يطاق(٣)٢).
و يجاب عن هذا بالآتي:
أن المشروع هو السجود لله شكراً عند النعم الطارئة المفاجئة المتجددة، التي يندر وقوعها وليس عند النعم المستمرة، فالنعم المستمرة يكون شكرها بفعل الطاعات.
(٢) نيل الأوطار (٤/١٦٣٣).
(٣) انظر: حاشية ابن عابدين (٢/٥٢٤).
١٣٦)... دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، لمنصور بن يونس البهوتي، عالم الكتب، ط٢، ١٤١٦هـ.
(١٣٧)... الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، برهان الدين إبراهيم ابن علي بن محمد بن فرحون، دار الكتب العلمية، بيروت.
(١٣٨)... ديوان الإسلام، لمحمد بن عبد الرحمن ابن الغزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١١هـ، تحقيق: سيد كسروي حسن.
(١٣٩)... ديوان الراعي النميري، جمع وتحقيق: راينهرت فايرت، بيروت، ١٤٠١هـ، يطلب من دار النشر فرانتس شتاينز بفيسبادن.
(١٤٠)... ديوان الفرزدق، شرح: مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، ١٤١٢هـ.
(١٤١)... ديوان المتلمس الضبعي رواية الأثرم وأبي عبيدة عن الأصمعي، معهد المخطوطة العربية، جامعة الدول العربية ١٤٩٠هـ، تحقيق: حسن الصيرفي.
(١٤٢)... ديوان النابغة، شرح: عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤٠٥هـ.
(١٤٣)... ذم الكلام وأهله، لعبد الله بن محمد الأنصاري الهروي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط١، ١٤١٦هـ، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد العزيز الشبل.
(١٤٤)... رجال تفسير الطبري جرحًا، وتعديلاً، من تحقيق: جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأحمد ومحمد شاكر، جمع محمد حلاف، دار ابن حزم، بيروت، ط١، ١٤٢٠هـ.
(١٤٥)... رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني، طبعة صاحب السمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، ١٤٠١هـ.
(١٤٦)... رسالة الحجاب لابن عثيمين، طبعة خاصة بجهاز الإرشاد بالحرس الوطني على نفقة صاحبة السمو الملكي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ط١، ١٤٢٠هـ.
(١٤٧)... رسالة في القواعد الفقهية، لعبد الرحمن بن سعدي، أضواء السلف، الرياض، ط١، ١٤٢٢هـ.
(١٤٨)... الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، لمحمد عبد الحي اللكنوي الهندي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط٣، ١٤٠٧هـ، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة.