٤- دار العلم في الكرخ غربي بغداد: أسسها أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بني بويه، ونقل إليها كتباً كثيرة اشتراها وجمعها، بالإضافة إلى عشرة آلاف وأربعمائة مجلد أخرى معظمها بخط أصحابها أو من الكتب التي كانت في ملك رجال مشهورين، وقد وكلّ في مراعاتها والمحافظة عليها رجلين من العلويين(١).
ومجرد اسم هذه المؤسسات يدل على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة فكانت دار الكتب قديماً تسمى خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير، أما المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم وخزانة الكتب جزء منها(٢).
وكانت هناك حركة واسعة لترجمة الكتب الأجنبية من الفلسفة والطب والفلك وغيرها من العلوم الفارسية واليونانية، وكان لترجمتها آثار سيئة على المسلمين، وذلك أنها كانت سبباً لانتقال الأفكار المنحرفة، والعقائد الضالة إلى المسلمين.
ولهذا كله ازدهر العلم وتوسع في هذا القرن الذي عاصره ابن خويز منداد –رحمه الله – فلا ريب في أن يكون من كبار الأئمة المالكيين.
(٢) الحضارة الإسلامية ( ١/٣١٢).
"من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمناً كان أوكافراً "(١). وقال: " ولا تجوز الإجارة في شيء من كتب الأهواء والبدع والتنجيم " وذكر كتباً ثم قال :" كتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك، وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك "(٢).
وقال في تفسيره لقول الإمام مالك في أنه لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء، قال :" أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم : أهل الكلام، فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل لهم شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها(٣)" فهذا موقفه رحمه الله من المبتدعة فكان شديداً عليهم حاله في ذلك حال غيره من أهل العلم المحققين من أهل السنة والجماعة فقد صنفوا في نبذ البدع كتباً كثيرة هي أصول لمن أراد الإفادة عن طريقة أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل البدع والأهواء فمن تلك الكتب :
كتاب : النهي عن البدع لابن وضاح القرطبي (٢٨٧هـ ).
وكتاب : الحوادث والبدع للطرطوشي (٤٧٤هـ ).
وكتاب : الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة (٦٦٥هـ ).
وكتاب: الاعتصام للشاطبي (٧٩٠هـ ).
وكتاب : الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي (٩١١هـ ). وغيرها كثير.
وقال فيما يفعله المنجمون والمشعوذون:
" نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم ورقاع الفأل في أشباه ذلك"(٤).
(٢) انظر : جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (٢/٩٤٣).
(٣) انظر : المصدر السابق في المكان نفسه.
(٤) انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٦/٢١٠).
عند قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) ﴾ التوبة : ١٠٠.
قال :" تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك من العطاء في المال والرتبة في الإكرام "(١).
٦- أنه يستنبط من الدليل الواحد عدة أحكام، فمثلاًُ:
عند قوله تعالى: ﴿ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ الكهف : ١٩.
قال: " تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم، وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معاً، وإن كان بعضهم أكثر أكلاً من الآخر "(٢).
٧- أنه يستدل أحياناً بالحديث الضعيف دون أن ينبه إلى ضعفه إلا أنه يورده بصيغة
التمريض، فمثلاً:
عند قوله تعالى: ﴿ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ المائدة : الآية ٥٥.
قال :" تضمنت جواز العمل اليسير في الصلاة، وذلك أن هذا خرج مخرج المدح، وأقل ما في باب المدح أن يكون مباحاً، وقد روي أن علياً ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أعطى السائل شيئاً وهو في الصلاة "(٣).
ومن ذلك: عند قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢) ﴾ البقرة: ١٥٢.
(٢) انظر : المصدر السابق ( ١٠/٣٢٨).
(٣) انظر : المصدر السابق ( ٦/٢٠٩). وسيأتي الكلام على ما روي عن علي - رضي الله عنه - هذا عند دراسة المسألة.
وقول إبراهيم النخعي: "المزاح من سخف أو بَطَر(١)"(٢).
فيمكن الجمع بينها بما ذكره النووي، قال: "المزاح المنهي عنه، هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك، وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، والفكر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح، الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يفعله، فإنه إنما كان يفعله في نادر من الأحوال، لمصلحة، وتطييب نفس المخاطب، ومؤانسته، وهذا لا منع منه قطعاً، بل هو سنة مستحبة إذا كان بهذه الصفة"(٣).
فالمزاح نوعان:
الأول: محمود: وهو الذي لا يشوبه ما كره الله - عز وجل -، ولا يكون بإثم ولا قطيعة رحم.
الثاني: مذموم: وهو الذي يثير العداوة، ويذهب البهاء، ويقطع الصداقة، ويجرئ الدنئ عليه، ويحقد الشريف به(٤).
(٢) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (٢/٢١٥). وإبراهيم النخعي هو: ابن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي الكوفي، من مذحج اليمن من أهل الكوفة، ومن كبار التابعين، أدرك بعض متأخري الصحابة، وكبار الفقهاء، قال عنه أحمد: "كان إبراهيم ذكياً حافظاً صاحب سنة"، توفي سنة ٩٦هـ. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (٦/٢٧٠)، وتاريخ الإسلام للذهبي (٣/٢٧٩)، وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص٢٩).
(٣) الأذكار (ص٤٦٨). وبنحوه قال ابن حجر، في الفتح (١٠/٦٤٧).
(٤) انظر: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي (ص٦٣).
٣- وحديث العرباض بن سارية(١)- رضي الله عنه - وفيه: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"(٢).
(٢) رواه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حـ ٤٦٠٧. موسوعة الحديث الشريف (ص١٥٦١) والترمذي في جامعه، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، حـ ٢٦٧٦. موسوعة الحديث الشريف (ص١٩٢١)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجة في سننه، كتاب السنة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، حـ ٤٣. موسوعة الحديث الشريف (ص٢٤٧٩)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم (٤٦٠٧)، (٣/١١٨).
قال ابن حجر:" قوله: (احتجبي منه يا سودة) مع حكمه بأنه أخوها لأبيها لكن لما رأى الشبه البين فيه من غير زمعة أمر سودة بالاحتجاب منه احتياطاً في قول الأكثر.. وفيه أن الشبه يعمل به في إثبات النسب لكن لا يقضى به إذا وجد ما هو أقوى منه"(١)٥).
وقال الشنقيطي: "لا تعتبر أقوال القافة في شبه المولود برجل إن كانت أمه فراشاً لرجل آخر؛ لأن النبي - ﷺ - رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص، ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشاً لزمعة، فقال - ﷺ - :"الولد للفراش وللعاهر الحجر" ولكنه - ﷺ - اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب، فقال لسودة بنت زمعة - رضي الله عنها - :(احتجبي منه) مع أنه ألحقه بأبيها فلم ير سودة قط"(٢)١).
القول الثاني:
إنه لا يثبت النسب بقول القافة، وإنما يثبت بثبوت سببه وهو: النكاح أو ملك اليمين.
قال به: الأحناف(٣)٢)، وسفيان الثوري، وإسحاق(٤)٣).
واستدلوا بالآتي:
أولاً: بقوله - صلى الله عليه وسلم- :"الولد للفراش، وللعاهر الحجر"(٥)٤).
وجه الدلالة من الحديث:
١- أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أخرج الكلام مخرج القسمة فجعل الولد لصاحب الفراش، والحجر للزاني، فاقتضى أن لا يكون الولد لمن لا فراش له، كما لا يكون الحجر لمن لا زنا منه، إذ القسمة تنفي الشركة.
٢- أنه - عليه الصلاة والسلام - جعل الولد لصاحب الفراش، ونفاه عن الزاني بقول - عليه الصلاة والسلام - وللعاهر الحجر، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في النفي.
(٢) أضواء البيان (٣/٤٢٩-٤٣٠).
(٣) انظر: المبسوط للسرخسي (١٧/٧٠)، وبدائع الصنائع للكاساني (٦/٢٤٣).
(٤) انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي (١٠/٢٨٣).
(٥) سبق تخريجه.
قال ابن القيم بعد ذكره للأدلة السابقة في القول الأول: "ولا أعلم شيئاً يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد، وهو أن نعم الله - سبحانه وتعالى - لا تزال واصلة إلى عبده، فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود، وهذا من أفسد رأي وأبطله، فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتجددة، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر، شكراً لله عليها، وخضوعاً له، وذلاً، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها"(١)٣).
ثم إن سجود الشكر سنة، وليس بواجب، فليس في تركه في بعض الأحيان إثم ولا حرج.
القول الثالث:
إن سجود الشكر محرم، فلا يجوز فعله.
وبهذا قال ابن خويز منداد.
ومما استدل به:
الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الثاني وبالآتي:
أن قوله: ﴿ tچyzur رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ دلت هذه الآية على أن السجود للشكر مفرداً لا يجوز لأنه ذكر معه الركوع فدل على أن الجائز هو أن يأتي بركعتين شكراً فأما سجدة مفردة فلا.
ويجاب عن هذا بالآتي:
١٤٩)... روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤٢٢هـ، ضبطه وصححه: علي بن عبد الباري عطية.
(١٥٠)... روضة الطالبين وعمدة المفتين، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط٣، ١٤١٢هـ.
(١٥١)... روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، محمد بن حبان البستي، دار الشريف، الرياض، ١٤١٤هـ.
(١٥٢)... روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لابن قدامة المقدسي، مكتبة الرشد، الرياض، ١٤١٦هـ، تحقيق: د. عبد الكريم بن علي النملة.
(١٥٣)... زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط١، ١٤٢٣هـ.
(١٥٤)... زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١٤، ١٤٠٧هـ، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط.
(١٥٥)... الزواجر عن اقتراف الكبائر، لأحمد بن حجر الهيتمي، دار الفكر.
(١٥٦)... سبل السلام شرح بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٨، ١٤١٦هـ، تحقيق: فواز زمرلي وإبراهيم محمد الجمل.
(١٥٧)... سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء على الأمة، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط١، ١٤١٢هـ.
(١٥٨)... سلسلة الأحاديث الصحيحة، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ١٤١٥هـ.
(١٥٩)... سمط النجوم العوالي، لعبد الملك بن حسين العاصمي المكي، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤١٩هـ، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض.
(١٦٠)... السنة، لعبد الله بن أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط٢، ١٤١٤هـ، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول.
(١٦١)... سنن الدارقطني؛ لعلي بن عمر أبوالحسين الدارقطني، دار المعرفة، بيروت، ١٣٨٦هـ، تحقيق: السيد عبد الله هاشم المدني.