٢- ومن ذلك موقفه من السلطان الأعظم، فمنهجه في التعامل مع السلطان الأعظم كمنهج أهل السنة والجماعة وهو وجوب طاعتهم بالمعروف فيطاعون إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بها فلا يطاعوا وتبقى طاعتهم في غيرها، وأن طاعتهم من طاعة الله عز وجل، ووجوب النصيحة لهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، ولا يرون الخروج عليهم، وإن جاروا ولا يدعون عليهم ولا ينزعون يداً من طاعتهم، بل يصبرون عليهم، ويدعون لهم بالصلاح، والمعافاة، مستندين في هذا المنهج على الكتاب والسنة، وذلك لما يترتب على الخروج عليهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، وهذا محل إجماع عند أهل السنة والجماعة لم يخالف فيه إلا ضال مفارق للجماعة(١). وهذا ما عليه ابن خويز منداد يتضح ذلك فيما يأتي:
أولاً: موقفه من السلطان المتغلب الذي نال الحكم بالسيف والقوة حيث قال: " ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة "(٢).
(٢) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ١/٣١١).
قال: " معنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة. قاله: سعيد بن جبير وقال أيضاً: الذكر طاعة لله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، وروي عن النبي - ﷺ -: "من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير، ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير"(١).
٨- أنه يستدل بالشعر أحياناً، فمثلاً:
عند قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦) ﴾ النساء : ٨٦.
فقد فسر التحية هنا: بالملك واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
أسير به إلى النعمان حتى | أنيخ على تحيته بجندي |
هذا ما تمكنت من الوقوف عليه في هذا المبحث.
المبحث الثالث
منهجه في الاختيار والترجيح
نظراً لكوني استنبطت منهجه من خلال أقواله التي نُقِلَتْ من تفسيره: (أحكام القرآن) فإنه قد ظهر لي أنه قد يقتصر الناقل على ذكر ما رجحه ابن خويز منداد دون ذكر لجميع ما أورده من إيراده للأقوال، ورده عليها وغير ذلك. لهذا فإنه يصعب على الباحث استنباط منهجه بدقة وتحقيق. والذي وقفت عليه هو الآتي:
١- أنه غالباً يقتصر على ذكر الراجح عنده في تفسير الآية فيبين معنى الآية من خلال ما ترجح لديه.
٢- لكونه مالكي المذهب فغالباً ما يذكر قول المالكية وقول مالك في المسألة إن وجد
وقد يخالفه أحياناً تبعاً للدليل(٣).
٣- غالباً ما يوافق الجمهور في ترجيحه(٤).
(٢) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ٥/٢٨٣).
(٣) انظر : مثلاً في المسائل التي خالف فيها الإمام مالك ( ٦/٢٧١). (٨/١٧٦).
(٤) انظر مثلاً : الجامع لأحكام القرآن ( ١/١٦٧)، ( ١/٣٢٣)، ( ٢/٢٧٢)، (٣/٣٤٦)، (٥/١٢٥)، ( ٦/٥٨)
١٢/٦٨)، وغيرها.
وبذلك يتبين أن المزاح جائز، بل قد يكون سنة في أحوال، كممازحة الأهل، أو إيناس مؤمن، أو تطييب نفس المخاطب، ونحو ذلك.
ولابد من مراعاة ضوابط شرعية للممازحة، وهي:
١- ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين، وسبق بيان حكم الاستهزاء.
٢- ألا يكون فيه كذب، لحديث: "ويل(١)للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له"(٢).
وعن أبي عبد الله بن عامر(٣)، أنه قال:
دعتني أمي يوماً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: ها، تعال أعطيك لِلَّهِ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما أردت أن تعطيه؟".
قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله - ﷺ -: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كِذْبَه"(٤)٥).
٣- ألا يكون فيه ما يسيء للأخلاق من معايب الكلام مما ينكره الشرع وتستهجنه الطباع السليمة، كالسباب، واللعان، والتفحش في القول، بزعم أن هذا مزاح، والنبي - صلى الله
(٢) رواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب، حـ ٤٩٩٠. موسوعة الحديث الشريف (ص١٥٨٨). ورواه الترمزي في سننه، كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، حـ ٢٣١٥. موسوعة الحديث الشريف (ص١٨٨٥). وحسنه الألباني في صحيح الترمزي (٢/٢٣٠) برقم: (٢٣١٥).
(٣) هو: ابن ربيعة، يكنى أبا محمد، أتاهم النبي - ﷺ - وهو غلام، لم يسمع من النبي - ﷺ -، روى عن كثير من الصحابة، وكان شاعراً، مات سنة ٨٥هـ. انظر: الاستيعاب (٣/٩٣٠)، والإصابة (٤/١١٩).
(٤) رواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، حـ ٤٩٩١. موسوعة الحديث الشريف (ص١٥٨٨) حسنه الألباني في صحيح أبي داود (٣/٢٢٦) برقم: (٤٩٩١).
قال ابن رجب: "قوله: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: "كل بدعة ضلالة"، والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه(١)، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً... وقوله - ﷺ -: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"(٢)فكل من أحدث شيئاً، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات،
أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة"(٣).
والأحاديث في هذا المقام كثيرة، وقد جاء عن السلف الصالح ما يدل على لزوم اتباع السنة والتحذير من الخروج عنها، روايات كثيرة أقتصر منها على الآتي:
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) جامع العلوم والحكم (٢/١٢٧-١٢٨).
٣- أنه جعل كل جنس الولد لصاحب الفراش، فلو ثبت نسب ولد لمن ليس بصاحب الفراش، لم يكن كل جنس الولد لصاحب الفراش، وهذا خلاف النص، فعلى هذا إذا زنا الرجل بامرأة فجاءت بولد فادعاه الزاني؛ لم يثبت نسبه منه لانعدام الفراش(١)٥).
ويجاب عن هذا الاستدلال بالآتي:
أن النبي - ﷺ -لم يعمل به في هذا الحديث لأن الفراش أقوى، فإنه معلوم أن الحكم به مقدم قطعاً، فترك العمل بالقيافة لمعارضتها ما هو أقوى منها، فإنما القيافة عند عدم الفراش، وهذا لا يوجب الإعراض عن الحكم بالقيافة إذا خلت عن المعارض(٢)١).
ثانياً: وتأول أصحاب هذا القول حديث مجزز، وقالوا إنه: ليس من باب التقرير لأن نسب أسامة كان معلوماً إلى زيد، وإنما كان يقدح الكفار في نسبه لاختلاف اللون بين الولد وأبيه، والقيافة كانت من أحكام الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإبطالها ومحو آثارها فسكوته - عليه الصلاة والسلام - عن الإنكار على مجزز ليس تقريراً لفعله.
وأن استبشاره إنما كان لإلزام الخصم الطاعن في نسب أسامة بما يقوله ويعتمده فلا حجة في ذلك(٣)٢).
ويجاب عن هذا بالآتي:
(٢) انظر: المغني (٨/٣٧٣). وسبل السلام (٤/٢٦٦).
(٣) المبسوط للسرخسي (١٧/٧٠).
أن المراد بالركوع عند أكثر أهل العلم في هذه الآية: السجود على الصحيح لأنه قد يعبر عن السجود بالركوع، وهو مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾ الآية، البقرة: ٥٨، يعني: ركوعاً(١)١) ثم لو سلم بأن ما فعله داود -عليه السلام - هو الصلاة؛ فليس فيه دلالة على المنع من سجود الشكر، وإنما هو حكاية فعله - عليه السلام - وفعله هو من شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه(٢)٢). وقد جاء في شرعنا ما يخالفه مما ورد عن النبي - ﷺ - أنه سجد مفرداً من غير صلاة كاملة - وسبقت الأدلة - فلا حجة في هذه الآية على منع سجود الشكر.
القول الراجح:
الراجح هو القول الأول، وهو: القول بأن سجود الشكر مستحب، وهو قول الجمهور ومنهم الخلفاء الذين أمرنا بالاستنان بسنتهم وهما أبوبكر وعلي، وكذلك أن ما ورد عن بعضهم كان في عهد الصحابة ولم يرد عن أحد ممن عاصرهم أنه خالفهم - وتقدم - هذا مع ضعف أدلة القائلين بعدم مشروعيته.
قال ابن القيم: "ولا أعلم شيئاً يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها، غير رأي فاسد وهو أن نعم الله - سبحانه وتعالى- لا تزال واصلة إلى عبده فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود وهذا من أفسد رأي وأبطله"(٣)١).
فتبين أن قول ابن خويز منداد في هذه المسألة مرجوح.
والله أعلم.
(٢) انظر: المستصفى لمحمد الغزالي (ص١٦٥)، وروضة الناظر لابن قدامة (٢/٥٢٢-٥٢٤)، والبحر المحيط للزركشي (٨/٤٤).
(٣) إعلام الموقعين (٤/٣١٣).
١٦٢)... سنن الدارمي، لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط١، ١٤٠٧هـ، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي.
(١٦٣)... السنن الكبرى، لأحمد بن الحسين البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١٤هـ؛ تحقيق: محمد عبد القادر عطاء، الناشر: دار الباز، مكة المكرمة.
(١٦٤)... سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط١١، ١٤١٧هـ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي.
(١٦٥)... سيرة ابن هشام، مؤسسة علوم القرآن، تحقيق: مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي.
(١٦٦)... شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لمحمد بن محمد مخلوف، المطبعة السلفية، القاهرة، ١٣٤٩هـ.
(١٦٧)... شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤١٩هـ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا.
(١٦٨)... شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لهبة الله بن الحسين بن منصور اللالكائي، دار طيبة، الرياض، ط٤، ١٤١٨هـ، تحقيق: د. أحمد سعد الغامدي.
(١٦٩)... شرح الأصول من علم الأصول، لمحمد بن صالح العثيمين، دار البصيرة، مصر، تحقيق: أبي يعقوب نشأت كمال المصري.
(١٧٠)... شرح السنة لأبي محمد الحسن بن علي البربهاري، تحقيق: خالد بن قاسم الردادي، دار السلف، الرياض، ط٣، ١٤٢١هـ.
(١٧١)... شرح السنة، لأبي زكريا، يحيى بن شرف النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط٢، ١٤٠٣هـ، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط.
(١٧٢)... شرح العقيدة الطحاوية، لعلي بن أبي العز، دار عالم الكتب، الرياض، ط٣، ١٤١٨هـ، تحقيق عبد الله التركي، وشعيب الأرنؤوط.
(١٧٣)... شرح العناية، لمحمد بن محمد البابرتي، دار الفكر، بيروت.
(١٧٤)... شرح الكوكب المنير، لمحمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النجار، مكتبة العبيكان، ط٢، ١٤١٨هـ، تحقيق: د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد.