ثانياً: موقفه من السلطان الفاسق أو الجائر، حيث قال: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان لله فيه معصية، ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا والحكم من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة وإقامة ذلك على وجه الشريعة وإن صلوا بنا، وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة "(١).
هذا ما تمكنت من الوقوف عليه في هذا المبحث، أما عن مذهبه الفقهي فهو مالكي المذهب، ذكر ذلك جميع من ترجم له.
المبحث الثاني/ المطلب السابع
مكانته العلمية، وأقوال العلماء فيه
يعد ابن خويز منداد من أئمة المالكية وتفنن في علوم عدة في الفقه وأصوله والحديث والتفسير وهو من عداد علماء الأثر والفقه والنظر، ومن علماء أهل السنة والجماعة، حتى قرن اسمه بالإمام أحمد بن حنبل(٢). وقد بلغ مبلغ كبار أئمة المالكية. وقوله معتمد غالباً في نقل أقوال الإمام مالك.
أقوال العلماء فيه:
ابن خويز منداد كغيره من جملة العلماء الذين يخطئون ويصيبون لذلك فإن من العلماء من أثنى عليه، ومنهم من قدح فيه، وهذا الحال مع أي عالم مهما بلغت رتبته، لذلك سأتناول هذه النقطة من خلال مسألتين:
المسألة الأولى: ثناء العلماء عليه:
١- قال ابن دحية :" قال أكثر علماء الأثر، والفقه، والنظر، منهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن خواز منداد، والحسين بن علي الكرابيسي، صاحب الشافعي، وداود الظاهري، إن خبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعاً(٣).
٢- وكذا عده ابن عبدالبر : من علماء الفقه والآثار(٤).
(٢) انظر : الابتهاج في أحاديث المعراج لابن دحية (٧٨).
(٣) المصدر السابق في المكان نفسه.
(٤) انظر : جامع بيان العلم وفضله (٢/٩٤٢).
٤- أنه كثيراً ما يوافق إجماع أهل العلم(١).
٥- إذا رجح قولاً فإنه يذكر الدليل من الكتاب أو السنة أوالإجماع أو أقوال الصحابة
أو القواعد الأصولية أو الفقهية.
٦- أنه إذا لم يذكر الدليل على ما رجحه فإنه يذكر السبب أو العلة التي بها رجح هذا القول(٢).
٧- أنه يستدل بظاهر النص في الترجيح إلا إذا كان ظاهر النص قد صرف بدليل صارف.
٨- أنه يستخدم أسلوب الاستفهام التقريري أو الإنكاري عند الترجيح ليقرر
ما رجحه(٣).
٩- إذا اختلفت الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية في تفسير كلام الله فإنه يقدم الحقيقة العرفية في الترجيح، فمثلاً:
عند قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ النحل: ١٤.
فعند كلامه عن الحلية أورد مسألة وهي: من حلف ألا يلبس حلياً فلبس لؤلؤاً لم يحنث ثم قال: لأن هذا وإن كان الاسم اللغوي يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان تخص بالعرف ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث، وكذلك لا يستضيء بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً "(٤).
والله أعلم.
المبحث الرابع
منهجه في آيات الأحكام
(٢) انظر مثلاً :( ٢/١٠٩)، ( ٢/٢٢٩)، ( ٣/٣٩٢).
(٣) انظر مثلاً :( ٢/٢١٧)، ( ٢/٢٢٩)، ( ١٠/٨٣)، وغيرها.
(٤) انظر : الجامع لأحكام القرآن ( ١٠/٨٣).
عليه وسلم- قال: "ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا بالفاحش، ولا بالبذئ"(١)وقال - صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(٢).
أو أن يتضمن غيبة، أو نميمة، وقد جاء الوعيد الشديد فيهما، بل هما من الكبائر.
٤- ألا يكون فيه أذى للمؤمن وترويع، لحديث: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً"(٣).
وحديث: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه، لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها"(٤).
٥- مراعاة الوقت، والمكان، والحال المناسب للمزاح.
٦- ألا يجعل المزاح عادة له، وديدناً يواظب عليه، ويفرط فيه.
٧- ألا يمازح كل أحد، بل ينزل الناس منازلهم، قال سعيد بن العاص لابنه عمرو: "يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك"(٥).
فتبين بذلك الفرق بين الاستهزاء والمزاح، وهما كما قال ابن خويز منداد: (ليس أحدهما من الآخر بسبيل).
والله أعلم......................
(٢) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن، حـ ٦٠٤٤. موسوعة الحديث الشريف (ص٥١١).
(٣) رواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح، حـ ٥٠٠٤، موسوعة الحديث الشريف (ص١٥٨٩). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (٣/٢٢٩) برقم: (٥٠٠٤).
(٤) المصدر السابق والكتاب والباب نفسه، حـ ٥٠٠٣. موسوعة الحديث الشريف (ص١٥٨٩)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (٣/٢٢٨) برقم: (٥٠٠٣).
(٥) انظر: إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٧/٤٩٨).
ما روي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: "كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - ﷺ - فلا تتعبدوا بها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء، خذوا طريق من كان قبلكم"(١).
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"(٢).
وقال شريح(٣): "اتبع ولا تبتدع فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر"(٤).
وغيرها من الآثار عن الصحابة والسلف الصالح كثير وإنما ذكرت نماذج منها.
فتبين بذلك أن العبادات توقيفية لا يجوز فيها الاجتهاد والرأي، وإنما يتوقف فيها على الوارد، وهذا ما بينه ابن خويز منداد، وهو ما عليه أهل العلم والسنة المحققين قاطبة.
والله أعلم.
(٢) رواه الدارمي في سننه، باب في كراهية أخذ الرأي (١/٧٤) برقم: (٢٠٩).
(٣) شريح هو: ابن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية قاضي الكوفة، أسلم في حياة النبي - ﷺ -، ولم يلقه على الصحيح، وانتقل من اليمن زمن الصديق، توفي قيل سنة ٧٨هـ، وقيل سنة ٨٠هـ. انظر: تهذيب الكمال (٣/٣٧٧)، وسير أعلام النبلاء (٤/١٠٠)، والبداية والنهاية لابن كثير (٩/٢٩).
(٤) رواه الدارمي في سننه، باب تغير الزمان وما يحدث فيه (١/٧١) برقم: (٢٠٢).
قال ابن القيم: "نحن لم نثبت نسبه بالقيافة، والقيافة دليل آخر موافق لدليل الفراش، فسرور النبي - ﷺ - وفرحه بها، واستبشاره لتعاضد أدلة النسب وتضافرها، لا لإثبات النسب بقول القائف وحده، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحق وأدلته وتكاثرها، ولو لم تصلح القيافة دليلاً لم يفرح بها ولم يسر، وقد كان النبي - ﷺ - يفرح ويسر إذا تعاضدت عنده أدلة الحق، ويخبر بها الصحابة، ويحب أن يسمعها من المخبر بها، لأن النفوس تزداد تصديقاً بالحق إذا تعاضدت أدلته، وتسر به وتفرح، وعلى هذا فطرالله عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشرعة، وبالله التوفيق"(١)٣).
وقال الصنعاني: " لا يخفى أن هذا الجواب - يعني جواب المستدلين بالحديث على عدم جواز القيافة - مبني على أنه قد سبق منه - ﷺ - إنكار للقيافة وإلحاق النسب بها... وهذا لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه، وهو قوله في قصة اللعان(٢)... ثم بفعل الصحابة من بعده، وقولهم بثبوت النسب به من الأدلة على عدم إنكاره - ﷺ -"(٣)٥).
(٢) يريد هنا ما رواه مسلم في صحيحه، كتاب اللعان، ح ١٤٩٦ موسوعة الحديث الشريف ( ص ٩٣٦) أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء... وفيه (فلاعنها فقال رسول الله - ﷺ -: "أبصروها فإن جاءت به أبيض سَبْطاً قَضِئ العينين فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به أكحل جعداً حَمْشَ الساقين فهو لشريك بن سحماء" فقوله: فهو لفلان إثبات للنسب بالقيافة. انظر سبل السلام (٤/٢٦٦).
(٣) سبل السلام (٤/٢٦٦).
١٧٥)... شرح صحيح البخاري، لعلي بن خلف بن عبد الملك المعروف بابن بطال، مكتبة الرشد، الرياض، ط٢، ١٤٢٣هـ، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم.
(١٧٦)... شرح مختصر الروضة، لسليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي، تحقيق: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط٢، ١٤١٩هـ، تحقيق: د. عبد الله التركي.
(١٧٧)... شرح مختصر خليل للخرشي، لمحمد بن عبد الله الخراشي، دار الفكر، بيروت.
(١٧٨)... شرح منتهى الإرادات، لمنصور بن يونس البهوتي، عالم الكتب، ط١، ١٤١٤هـ.
(١٧٩)... شرف أصحاب الحديث ونصيحة أهل الحديث، للخطيب البغدادي، مكتبة العلم، جدة، ط١، ١٤١٧هـ، تحقيق: عمرو عبد المنعم سليم.
(١٨٠)... الشريعة للآجري، لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، مؤسسة الريان، بيروت، ط١، ١٤٢١هـ.
(١٨١)... شعر النابغة الجعدي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط١، ١٣٨٤هـ.
(١٨٢)... الشكر لابن أبي الدنيا، تحقيق: ياسين محمد السواس، وعبد القادر الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، ط٢، ١٤٠٧هـ.
(١٨٣)... الشمائل المحمدية في الخصائل المصطفوية، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، الملحق بتحفة الأحوذي، للمباركفوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط١، ١٤١٩هـ.
(١٨٤)... الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور، لحمود بن عبد الله التويجري، دار العليان، بريدة، القصيم، ط٢، ١٤٠٩هـ.
(١٨٥)... الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط١، ١٤١٩هـ.
(١٨٦)... صحيح ابن حبان، لمحمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط٢، ١٤١٤هـ، تحقيق: شعيب الأرنؤوط.
(١٨٧)... صحيح ابن خزيمة، لمحمد بن إسحاق بن خزيمة، المكتب الإسلامي، بيروت، ١٣٩٠هـ، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي.
(١٨٨)... صحيح الجامع الصغير وزيادته، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط٣، ١٤٠٨هـ.
(١٨٩)... الصحيح المسند من أسباب النزول، لمقبل بن هادي الوادعي، دار ابن حزم، بيروت، ط٢، ١٤١٥هـ.