٣- قال القاضي عياض :" وعنده شواذ عن مالك وله اختيارات وتأويلات على المذهب خالف فيها المذهب، والأصول لم يرجع عليها حذاق المذهب "(١).
ويلاحظ أن كل من نقد على ابن خويز منداد بهذا ممن جاء بعد القاضي عياض فإنما نقلوا هذا عن القاضي سواء صرح الناقل بالنقل عنه أم لم يصرح، كابن فرحون(٢)، وابن حجر(٣)، والحجوي(٤)، والخفاجي(٥).
الردود على هذه الأقوال في ابن خويز منداد :
لا يسلم أحد من البشر من الخطأ إذ العصمة للأنبياء دون غيرهم، مهما بلغ من العلم والرسوخ فيه، لكن هفوة العالم الصالح الذي له آثار حسنة تغتفر ويعتذر عنه في خطئه.
قال ابن عبدالبر: في معرض كلام له عن نقد العلماء :" وقد غلط فيه كثير من الناس وضلت فيه نابتة جاهلة، لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات "(٦).
وقال :" وقد جاز على كثير منهم - أي العلماء - جهل كثير من السنن الواردة على ألسنة خاصة العلماء، ولا أعلم أحداً من الصحابة إلا وقد شذ عنه بين علم الخاصة واردة بنقل الآحاد أشياء حفظها غيره، وذلك على من بعدهم أجوز، والإحاطة ممتنعة على كل
أحد "(٧).

(١) ترتيب المدارك (٣/٦٠٦).
(٢) انظر : الديباج المذهب (صـ٤٦٨).
(٣) انظر : لسان الميزان (٥/٢٩١).
(٤) انظر : الفكر السامي (٢/١١٥).
(٥) انظر : نسيم الرياض (٤/١٤١).
(٦) انظر : جامع بيان العلم وفضله ( ٢/١٠٩٥).
(٧) الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبدالبر (١/١٨٨).

قال: "كل عرض جاز بيعه جاز رهنه ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة لأن بيعه جائز، ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهناً قياساً على سلعة موجودة، وقال من منع ذلك: لأنه لا يتحقق إقباضه والقبض شرط لزوم الرهن لأنه لابد أن يستوفي الحق منه عند المحل ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه، ولا يتصور ذلك في الدَّين"(١).
٢- أحياناً يذكر القول المخالف دون ذكر اسم القائل، كما في المثال السابق أيضاً.
٣- كان نزيه اللسان فلا يتطاول على المخالفين لقوله ولا يتعصب لمذهبه ولا يشغب، ولا يثرب، بل يورد القول ويناقش القائل أحياناً، متبعاً في ذلك منهج العلماء الراسخين.
فمثلاً، عند قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ البقرة : ١٧٣.
تكلم عن سفر العاصي هل يترخص برخص السفر أم لا؟ وهو يرى أنه له أن يأكل الميتة عند الاضطرار لكن ليس له أن يترخص برخص السفر حيث قال وهو يرد في ثنايا قوله على من قال: إن العاصي والطائع في رخص السفر سواء، فقال: "فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيماً، وليس كذلك الفطر والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر، فمتى كان السفر معصية لم يجز أن يقصر فيه لأن هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا إنه يتيمم والتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية لأن التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف نمنعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة.
(١) انظر: الجامع لأحكام القرآن (٣/٣٥٩).

والحديث الذي احتجوا به حجة عليهم، لأن إنكار الرجل ولده لمخالفة لونه، وعزمه على نفيه لذلك، يدل على أن العادة خلافه، وأن في طباع الناس إنكاره، وأن ذلك إنما يوجد نادراً، وإنما ألحقه النبي - ﷺ - به لوجود الفراش، وتجوز مخالفة الظاهر لدليل، ولا يجوز تركه من غير دليل.
ولأن ضعف الشبه عن نفي النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته فإن النسب يحتاط لإثباته، ويثبت لأدنى دليل، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى الأدلة، كما أن الحد لما انتفى بالشبه لم يثبت إلا بأقوى دليل، فلا يلزم حينئذٍ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور، أن لا يثبت به النسب في مسألتنا "(١)١).
وقال ابن القيم: "وكذلك نقول نحن وسائر الناس: إن الفراش الصحيح إذا كان قائماً، فلا يعارض بقافة ولا شبه، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه - وهو الفراش - غير مستنكر، وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شيء"(٢)٢).
القول الراجح:
الذي ترجح مما سبق هو: القول الأول، وهو قول الجمهور، وهو: أنه يجوز العمل بالقيافة في إثبات النسب، بشروط ذكرها أهل العلم ليس هذا مكان ذكرها. وذلك لقوة أدلتهم واستدلالهم، ولضعف استدلالات أصحاب القول الثاني مع ما ورد عليها من ردود قوية.
فتبين أن ابن خويز منداد وافق الجمهور في هذه المسألة، وهو القول الصواب.
والله أعلم
(١) المغني (٨/٣٧٤).
(٢) زاد المعاد (٥/٤٢٢).

٢٠٦)... طرح التثريب، لعبد الرحيم بن الحسين العراقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ٢٠٠٠م، تحقيق: عبد القادر محمد علي.
(٢٠٧)... ظهر الإسلام، لأحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت، ط٣.
(٢٠٨)... العبر في خبر من غبر، لمحمد بن أحمد الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤٠٥هـ، تحقيق: محمد السعيد زغلول.
(٢٠٩)... العبر في خبر من غبر، لمحمد بن أحمد الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٤٠٥، تحقيق: محمد السعيد زغلول.
(٢١٠)... العبودية بشرح الشيخ عبد العزيز عبد الله الراجحي، دار الفضيلة، الرياض، ط١، ١٤٢٠هـ.
(٢١١)... علل الحديث، لابن أبي حاتم، دار المعرفة، بيروت ١٤٠٥هـ، تحقيق: محب الدين الخطيب.
(٢١٢)... عمدة التفسير، لأحمد محمد شاكر، دار الوفاء، المنصورة، ط١، ١٤٢٤هـ.
(٢١٣)... عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي عبد الرحمن شرف الحق العظيم آبادي، دار إحياء التراث العربي، ط١، ١٤٢١هـ.
(٢١٤)... العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، مكتبة الهلال، بيروت، تحقيق: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي.
(٢١٥)... فتاوى السبكي، لأبي الحسن تقي الدين علي السبكي، دار المعرفة، بيروت.
(٢١٦)... الفتاوى الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار المعرفة، بيروت ط١، ١٣٨٦هـ، تحقيق: حسنين محمد مخلوف.
(٢١٧)... الفتاوى الهندية، لجنة العلماء برئاسة نظام الدين البلخي، دار الفكر.
(٢١٨)... فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، دار السلام، الرياض، ط١، ١٤١٨هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
(٢١٩)... فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، دار الوفاء، المنصورة، ط٢، ١٤١٨هـ، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة.
(٢٢٠)... فتح القدير، لكمال الدين بن عبد الواحد بن الهمام، دار الفكر بيروت.
(٢٢١)... الفتح المبين في طبقات الأصوليين، لعبد الله مصطفى المراغي، المكتبة الأزهرية، للتراث، ١٤١٩هـ.


الصفحة التالية
Icon