وأمّا ما احتجّ به أصحاب القول الثاني من دلالة السياق؛ فهو غير مسلّم، وذلك أنّ قوله تعالى قبل ذلك: ﴿ هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ ليس كقوله: ﴿ حسبك الله ومن اتّبعك من المؤمنين ﴾، لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ في الآية نفسها فرّق بين الحسب والتأييد، ﴿.. فإنّ حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين..﴾ فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده(١)، ولو كان المعنى واحداً، لكان تكراراً ينزّه عنه كلام الباري سبحانه.
وكذا قوله تعالى بعدها: ﴿ يأيّها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال..﴾، فإنّ فيه دليلاً على أنّ الحسب لله وحده، إذ لو كان للمؤمنين منه شيء، لما احتاجوا إلى التحريض، كيف وقد قال الله في الآية التي بعدها: ﴿ الن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً.. ﴾[الأنفال: ٦٦]، فمن كان فيه ضعف، كيف يكون كافياً لغيره؟!، لا سيّما إذا كان غيره أعلى منه وأقوى.
وأمّا ما احتجّوا به من سبب النزول، فيجاب عنه من وجوه:
؟ أحدها: ضعف الآثار الواردة في ذلك، ولذا أعرض المحقّقون وأئمّة التفسير عن ذكرها(٢).
؟ الثاني: أنّ السورة مدنيّة، والحادثة التي ذكروها في سبب النزول كانت في أوائل العهد المكيّ. والقول بأنّ الآية مكّيّة يحتاج إلى دليل صحيح، ولا دليل.
؟ الثالث: أنّه على فرض صحّة هذه الآثار، فإنّها لا تدلّ على المعنى الذي ذكروه، بل تدلّ على المعنى الصحيح، وهو أنّ الله كاف نبيّه، وكاف من اتّبعه من المؤمنين الخائفين المضطهدين، ومنهم عمر ـ رضي الله عنه ـ فإنّه وإن عزّ الدين بإسلامه، إلا أنّ أذى المشركين لم ينقطع، ممّا حمل النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وأتباعه من المؤمنين إلى الهجرة، ومفارقة الأوطان.

(١) ينظر: زاد المعاد: ١/ ٣٦.
(٢) كالطبريّ، وابن كثير، والوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول.


الصفحة التالية
Icon