وانفرد الواحديّ ـ رحمه الله ـ، فاختار القول الثاني(١)، ولم أر ـ حسب اطّلاعي ـ من اختاره من المفسّرين غيره، بل قال النحّاس ـ رحمه الله ـ: " ولا أعلم أحداً قال هذا إلا الزهري "(٢).
والراجح: هو الأوّل، لما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ من اتّفاق الناس على أنّ الصدّيق ـ رضي الله عنه ـ إنّما نادى بالبراءة من المشركين يوم النحر، عاشر ذي القعدة. والذي في الصحيح أنّ أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذنين بعثهم يوم النحر، يؤذّنون بمنى أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.. ". ثمّ أردف رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعليّ بن أبي طالب، وأمره أن يؤذّن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذّن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة، وألا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان(٣).
ففي هذا الحديث دليل على أنّ آيات البراءة من المشركين إنّما نزلت بعد خروج أبي بكر في شهر ذي القعدة، وأنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بعث بها عليّاً بعد خروج أبي بكر، ولذا ذكر الجصّاص ـ رحمه الله ـ أنّ قول الزهريّ ـ رحمه الله ـ وهم منه(٤).
(٢) الناسخ والمنسوخ: ١/ ٤٨٨.
(٣) أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير، باب قوله :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنّكم غير معجزي الله..﴾: ٤/ ١٧٠٩، برقم: ٤٣٧٨. والمقصود ببراءة: بعضها، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الفتح(٨/٣١٩): " وفي قوله (يؤذّن ببراءة ) تَجَوّز، لأنّه أُمر أن يؤذّن ببضع وثلاثين آية، منتهاها عند قوله تعالى: ( ولو كره المشركون ) ". وقد جاء التصريح بذلك فيما رواه الطبريّ في تفسيره(٦/٣٠٤)، عن محمّد بن كعب وغيره، قال: بعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أبا بكر أميراً على الحجّ سنة تسع، وبعث عليّاً بثلاثين أو أربعين آية من براءة..
(٤) ينظر: أحكام القرآن: ٣/ ٧٩.