الذي يظهر - مما سبق - أن المراد بالهدي في قوله تعالى :﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ هو ما عليه جمهور المفسرين، ورجحه الشنقيطي في تفسيره ؛ وعليه فالمراد بالهدي ما تيسر مما يسمى هدياً، من الإبل والبقر والغنم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت :(( أهدى - ﷺ - مرةً غنماً )) (١) ؛ فهذا الحديث الصحيح مما يضعف القول بحصر الهدي في الإبل والبقر دون الغنم، والله تعالى أعلم.
١١- المراد بالعفو في قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [ البقرة : ٢١٩]
اختلف المفسرون في المراد بالعفو في قوله تعالى :﴿ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ على أقوال ترجع في جملتها إلى قولين :
١- أنه الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها.
٢- أنه نقيض الجهد، وهو أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع.
ترجيح الشنقيطي - يرحمه الله - :
[ قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة : ٣٠]
عبر في هذه الآية الكريمة بـ (من) التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه، ولكنه بين في مواضع أخر أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو : الزائد على الحاجة وسد الْخَلَّة (٢) التي لا بد منها، وذلك كقوله :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [ البقرة : ٢١٩]، والمراد بالعفو : الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور.

(١) تقدم تخريجه في ترجيح الشنقيطي.
(٢) الْخَلَّةُ هي : الحاجة والفقر والخصاصة، وفي المثل :( الْخَلَّةُ تدعوا إلى السلَّة ) أي : إلى السرقة.
... ينظر : لسان العرب لابن منظور ٢ / ١٢٥١ ( خلل )، والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص ٨٩٥ ( خ ل ل).

] (١).
فالراجح عند الشنقيطي - يرحمه الله - في المراد بالمثلية في الآية هي المماثلة في الصورة والخلقة.
دراسة الترجيح :
قال جمهور المفسرين : إن المماثلة في قوله تعالى :﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ هي المماثلة في الصورة والخلقة، وممن اختار هذا القول من المفسرين : الطبري(٢)، والسمرقندي(٣)، والبغوي(٤)، وابن العربي(٥)، وابن الجوزي (٦)، والرازي (٧)، والقرطبي(٨)، وأبو حيان(٩)، وابن كثير(١٠)، والشوكاني(١١)، والقاسمي(١٢)، والسعدي(١٣)، وغيرهم.
وقال أبو حنيفة (١٤) - رحمه الله تعالى - : إن المماثلة معنوية، وهي القيمة، أي قيمة الصيد في المكان الذي قتله فيه أو أقرب موضع إليه.
تحرير المسألة :
الذي يظهر - مما سبق - أن المراد بالمماثلة في الآية هو ما عليه جمهور المفسرين وعليه فالمراد : المماثلة في الصورة والخلقة.
قال الطبري :(( وغير جائز أن يكون مثل الذي قُتِل من الصيد دراهم وقد قال الله تعالى من النعم ؛ لأن الدراهم ليست من النعم في شيء ))(١٥).
وقال ابن العربي :(( والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة، وذلك من أربعة أوجه :
(١) أضواء البيان ١/٣٣٣-٣٣٤.
(٢) جامع البيان ١١/٢٠.
(٣) بحر العلوم ١/٤٥٨.
(٤) معالم التنزيل ٢/٦٤.
(٥) أحكام القرآن ٢/١٣٥.
(٦) زاد المسير ٢/٤٢٤.
(٧) التفسير الكبير ١١/٧٤ وما بعدها.
(٨) الجامع لأحكام القرآن ٦/١٩٠.
(٩) البحر المحيط ٤/٣٦٥ وعزاه إلى الجمهور.
(١٠) تفسير القرآن العظيم ٢/١٥٩.
(١١) فتح القدير ٢/٧٧.
(١٢) محاسن التأويل ٦/٣٧٢.
(١٣) تيسير الكريم الرحمن ص ٢٠٦.
(١٤) ينظر : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين بن مسعود الكاساني الحنفي، ٢/٤٣١، وشرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي ٣/٦٥.
(١٥) جامع البيان ١١/٢٠.

" تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ أبي الحجاج يوسف المزي ( المتوفى سنة ٧٤٢هـ )، تحقيق وضبط : د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٨هـ.
" تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري ( المتوفى سنة ٣٧٠هـ )، تحقيق : عبدالكريم العزاوي، مراجعة محمد النجار، مكتبة الخانجي، القاهرة.
" التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (المتوفى سنة٤٤٤هـ)، تحقيق : أوتو برتزل، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٦هـ.
" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (المتوفى سنة ١٣٧٦هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٢٠هـ.
" جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبري ( المتوفى سنة ٦٧١ هـ )، تحقيق : محمود محمد شاكر، راجعه وخرّج أحاديثه أحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
" جامع الإمام الترمذي، دار السلام، الرياض، الطبعة الثالثة ١٤٢١هـ.
" الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى سنة ٦٧١هـ)، اعتنى به وصححه : الشيخ هشام سمير البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ.
" جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف للدكتور : عبدالعزيز بن صالح الطويان، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٩هـ.
" الحجة للقراء السبعة لأبي علي الحسن بن عبدالغفار الفارسي (المتوفى سنة ٣٧٧هـ)، تحقيق: بدر الدين قهوجي وبشير جويجاتي، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، ١٤٠٤هـ.
" خالص الجمان تهذيب مناسك الحج من أضواء البيان، لسعود بن إبراهيم الشريم، دار الوطن، الرياض، الطبعة الثانية، ١٤١٧هـ.


الصفحة التالية
Icon