ولا يوجد في كتاب الله، ولا سنة نبيه - ﷺ - شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في محل النزاع ؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى.
وقد صرح فيه النبي - ﷺ - بأن الطهر هو العدة، مبيناً أن ذلك هو مراد الله -جل وعلا - بقوله :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [الطلاق: ١]، فالإشارة في قوله - ﷺ - :" فتلك العدة " (١) راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق ؛ لأن معنى قوله :(( فليطلقها طاهراً)) أي : في حال كونها طاهراً، ثم بين أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدة، مصرحاً بأن ذلك هو مراد الله في كتابه العزيز، وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر، وأنّث الإشارة لتأنيث الخبر، ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات، إلا إذا قال العدة غير القروء، والنزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء، وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي، وإجماع أهل اللسان العربي، على أن عدة من تعتد بالقروء هي نفس القروء، لا شيء آخر زائد على ذلك.
وقد قال تعالى :﴿ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ﴾ [الطلاق: ١] وهي زمن التربص إجماعاً، وذلك هو المعبر عنه بثلاثة قروء التي هي معمول قوله تعالى :﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [البقرة : ٢٢٨] في هذه الآية، فلا يصح لأحد أن يقول : إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئاً يسمى العدة، زائداً على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة، كما هو معلوم.
وفي القاموس :(( وعدة المرأة أيام أقرائها، وأيام إحدادها على الزوج )) (٢)، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شيء زائد عليها.
(٢) القاموس المحيط للفيروزآبادي ص ٢٧٠ مادة (ع و د).
قال الطبري -رحمه الله- معللاً ترجيحه للقول الأول :(( وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيد الذي يصاد، فقال :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ﴾، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصد منه، فقال : أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه، وأما (المليح) فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ﴾ فلا وجه لتكريره ؛ إذ لا فائدة فيه، وقد أعلم عباده تعالى ذكره : إحلاله ما صيد من البحر بقوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ﴾، فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك :(ومليحه الذي صِيد حلال لكم) ؛ لأن ما صيد منه فقد بين تحليله، طرياً كان أو مليحاً بقوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ﴾، والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة))(١). والله تعالى أعلم.
١٧- المراد بالفتنة في قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً ﴾
قال تعالى :﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥](٢)
اختلف في المراد بالفتنة التي تعم الظالم وغيره في هذه الآية على أقوال منها :
١- أنها السكوت عن إنكار المنكر.
٢- أنها البلية التي يبلى بها الإنسان
٣- أنها افتراق الكلمة(٣)
ترجيح الشنقيطي - يرحمه الله - :
(٢) ذكر الشنقيطي - رحمه الله - هذه الآية عند تفسيره لقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة : ١٠٥].
(٣) ينظر : النكت والعيون للماوردي ٢/٣٠٩، وزاد المسير لابن الجوزي ٣/٣٤١.
" الفرق بين الفِرَق لعبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، الأسفرائني التميمي (المتوفى سنة ٤٢٩هـ)، تحقيق : محمد محيي الدين عبدالحميد، دار المعرفة، بيروت - لبنان.
" فوات الوفيات لمحمد بن شاكر بن أحمد الكتبي (المتوفى سنة ٧٦٤هـ)، تحقيق: علي محمد بن يعوض الله وعادل أحمد عبدالموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٢٠هـ.
" القاموس المحيط لمجد الدين محمد يعقوب الفيروزآبادي (المتوفى سنة ٨١٧هـ)، ضبط وتوثيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، ١٤٢٠هـ.
" قضاة المدينة المنورة، لعبدالله بن محمد بن زاحم، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ١٤١٨هـ.
" قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين علي الحربي، دار القاسم، الطبعة الأولى، ١٤١٧هـ.
" القواعد الحسان لتفسير القرآن لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (المتوفى سنة ١٣٧٦هـ)، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثالثة، ١٤٢٤هـ.
" القواعد الفقهية (مفهومها - نشأتها - تطورها - دراسة مؤلفاتها - أدلتها - مهماتها - تطبيقاتها ) لعلي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة ١٤١٤هـ.
" الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة لأبي عبدالله أحمد بن أحمد الذهبي الدمشقي، تحقيق: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، مؤسسة علوة، جدة، الطبعة الأولى ١٤١٣هـ.
" الكامل في ضعفاء الرجال لعبد الله بن عدي الجرجاني(المتوفى سنة ٣٦٥هـ)، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٩هـ.
" الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لمحمود بن عمر الزمخشري (المتوفى سنة ٣٦٥هـ)، دار الفكر، الطبعة الأولى، ١٤٠٣هـ.
" كشاف المسائل الفقهية والعقدية في تفسير أضواء البيان، إعداد : عبدالرحمن بن ظافر القشيري، دار المسلم، الرياض - الطبعة الأولى، ١٤١٨هـ.