" ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله، وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه " (١).
وعلى كل حال، هذه إشارات سريعة، ونُبَذٌ يسيرة عن حياة إمام الدنيا في عصره، أسوقوها تمهيداً لهذا البحث، مذيَّلاً لها بأهم المصادر التي اقتُبست منها.
اسمه ونسبه :
هو شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم، بن الشيخ العلاَّمة مجد الدين أبي البركات عبد السلام، بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخَضِر، بن محمد، بن الخضر، بن علي بن عبد الله، بن تَيْمِيَّة النُّمَيْرِي، الحرَّاني، ثم الدَّمشقي.
و( تَيْمِيَّة ) لقب لجدَّه محمد، وفي تعليلها قولان مشهوران :
أحدهما : أن جدَّه محمداًَ، ذهب إلى الحج وله امرأة حامل، ومرَّ على دّرْب
تَيْماء(٢)، فرأى جارية، فلما رجع إلى حرَّان وجد امرأته ولدت بنتاً، فلما رآها قال : يا تَيْمِيَّة يا تيمية، فلقَّب بذلك.
والثاني : أن جدَّه محمداً هذا كان اسمُ أُمَّه تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها وعرف بها(٣).

(١) انظر : العقود الدرية ص٩، وكان يقول :" لم يُر مثله منذ أربعمائة سنة " وعن ابن الزملكاني أنه قال :"لم يُر من خمسمائة سنة، أو أربعمائة سنة أحفظ منه " انظر : الذيل ٢/٢٩٣. وكان ابن الزملكاني محباً ومعظماً له، ثم عاد ذا مَّا له، ولا دَّا عليه آخر حياته، انظر : البداية والنهاية ١٤/١٣٧، . وقال عنه المقريزي في المقفَّى الكبير ١/٤٦٨ " ثم نزغ الشيطان بينهما، وغلبت على ابن الزملكاني أهويته فمال عليه مع من مال ".
(٢) تَيْمَاء : بلدة معروفة، شمال المملكة العربية السعودية.
(٣) انظر : العقود الدرية ص٤، والتبيان لبديعة البيان لابن ناصر الدين الدمشقي، ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ص٤٩١، والكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية ص٥٢.

وهذا يعمُّ كلّ قول زور بأي لفظ كان، وعلى أي صفة وجد، فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره، و( الزُّور ) هو الباطل الذي قد ازوَرَّ عن الحق والاستقامة، أي تحوَّل، وقد سماه النبي - ﷺ - شهادة الزور، وقال في المظاهرين من نسائهم :(١) " (٢).
الدراسة :
اختلف المفسرون في المراد بقول الزور في الآية على أربعة أقوال :
القول الأول : أنه شهادة الزور، قال ابن مسعود :" عُدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات، ثم قرأ " (٣)، ورُوي مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - (٤).
(١) سورة المجادلة : الآية ٢.
(٢) مجموع الفتاوى ١٤/١٦٩، وانظر : نفس المرجع ١/٨١، ٢٧/٨٢، واقتضاء الصراط المستقيم ٢/٧٥٨ فقد بيَّن في هذه المواضع أن المراد بالزور في هذه الآية الكذب.
(٣) أخرجه ابن جرير ٩/١٤٤، وعزاه في الدر ٤/٦٤٦ لعبد الرزاق ولم أجده.
(٤) أخرجه أحمد ٤/٣٢١، وأبو داود ٣/٣٠٤ ح٣٥٩٩، كتاب الأقضية، باب في شهادة الزور، وهذا لفظه، وابن ماجة ٢/٧٩٤ ح٢٣٧٢، كتاب الأحكام، باب شهادة الزور، والترمذي ٤/٤٧٥ ح٢٣٠٠، كتاب الشهادات، باب ما جاء في شهادة الزور، وابن أبي شيبة في المصنف ٧/٢٥٨، وابن جرير ٩/١٤٤، وعزاه في الدر المنثور ٤/٦٤٦ أيضاً لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والطبراني، جميعهم من حديث خريم بن فاتك، قال ابن القطان :" لا يصحُّ "، تخريج الكشاف للزيعلي ٢/٣٨٣، وقال الحافظ في التلخيص ٤/٣٤٩ :" إسناده مجهول، ورواه أحمد والترمذي والطبري من حديث أيمن بن خريم وهو ضعيف أيضاً ".

وتعقّبه ابن عطية بأنه ورد إطلاق النكاح على الوطء في القرآن، كما في قوله تعالى :(١)، وقد بينه النبي - ﷺ - بأنه الوطء(٢).
وضعّف هذا القول شيخ الإسلام من وجوه تقدم ذكرها.
القول الثالث : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :(٣)، حيث أحلَّ الله تعالى في هذه الآية نكاح كل مسلمة، وإنكاح كل مسلم(٤).
قال ابن المسيِّب :" نَسَخَتْها التي بعدها "، وقال :" إنهن من أيامى المسلمين " (٥).
واختاره الإمام الشافعي، وقال بعد أن أورد هذا الأثر :" فوجدنا الدلالة عن رسول الله - ﷺ - لم نعلمه حرَّم على واحد منهما أن ينكح غير زانية، ولا زان، ولا حرَّم واحداً منهما على زوجه..." (٦). واختاره أيضاً النحاس(٧).
وضعَّف هذا القولَ جمع من المفسرين، منهم ابن العربي، وبيّن أنه تخصيص لعام وبيان لمجمل وليس بنسخ(٨)، وابن عطية، حيث ضعَّفه بذكر الإشراك(٩)، وابن القيم، وبين أنه لا تعارض بين الآيتين(١٠).
(١) سورة البقرة : الآية ٢٣٠.
(٢) تفسيره ١١/٢٦٧.
(٣) سورة النور : الآية ٣٢.
(٤) انظر : تفسير ابن جرير ١٧/١٥٩ ط التركي، والأيامى : جمع أيِّم، وهو من لا زوج له من الرجال والنساء، يوصف به الذكر والأنثى. انظر : المرجع السابق ١٧/٢٧٤.
(٥) أخرجه الشافعي في الأم ٥/١٨، وعبد الرزاق ٢/١٥، وابن جرير ١٧/١٥٩ – ١٦٠ ط التركي من خمس طرق، وابن أبي حاتم كما في الدر ٥/٤١، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ٢/٥٣٨، وغيرهم، انظر : الدر ٥/٤١.
(٦) الأم ٥/١٢، وانظر : ص ١٤٨.
(٧) انظر : الناسخ والمنسوخ له ٢/٥٣٧، ٥٤٣، وإعراب القرآن ٣/١٢٨، ومعاني القرآن ٤/٤٩٩، وقيل إنها منسوخة بالإجماع، وهو ضعيف. انظر : تفسير الرازي ٢٣/١٥٢.
(٨) انظر : الناسخ والمنسوخ له ٢/٣١١، وأحكام القرآن ٣/١٣٣١.
(٩) تفسيره ١١/٢٩٩.
(١٠) إغاثة اللهفان ١/٧٢.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : ، قال :" هذا مثل ضربه الله للكافر، كما لا يسمع الميت كذلك لا يسمع الكافر ولا ينتفع به " (١).
قال أبو حيان :" أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى وإن كانوا أحياء صحاحَ الأبصار ؛ لأنهم إذا تُلي عليهم لا تعيه آذانهم، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى " (٢).
وذهب شيخ الإسلام - كما تقدم - إلى أن المراد بالموتى هم الموتى على الحقيقة، وهو ظاهر اختيار ابن كثير(٣).
هذا وقد حرر هذه المسألة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تحريراً بالغاً، حيث ذكر القولين بأدلتهما، وإليك كلامه : عند هذه الآية :" اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أن معنى قوله هنا : لا يصح فيه من أقوال العلماء إلا تفسيران :
الأول : أي : لا تسمع الكفار، الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع ؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة.
ومن القرائن الدالة على ما ذكرنا :
أ - قوله تعالى بعد هذه الآية :
(٤) فمقابلته - جل وعلا - بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها لمن يؤمن بآياته دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء، ولو كان المراد بالموت الذي هو مفارقة الروح للبدن لقابله بما يناسبه كأن يقال : إن تسمع إلا من لم يمت.
(١) تفسير ابن أبي حاتم ٩/٢٩٢٠.
(٢) تفسير أبي حيان ٧/٩١، وانظر : معاني القرآن للزجاج ٤/١٩٠، وتفسير ابن عاشور ٢٠/ ٣٤.
(٣) تفسير ابن كثير ٣ / ٣٨٦، ٤٤٧.
(٤) سورة النمل : الآية ٨١.

والراجح - والله تعالى أعلم - هو القول الأول، لثبوته عن السلف، وقوة أدلته.
قال الزمخشري :" ثم ذكرهن – يعني أزواج النبي - ﷺ - أن بيوتهن مهابط الوحي وأمرهن ألا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : هو آيات بينات تدل على صدق النبوة لأنه معجز، وهو حكمة وعلوم وشرائع " (١).
وقال الألوسي :" وقال جمع : المراد بالآيات والحكمة : القرآن وهو أوفق بقوله :
أي : اذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع " (٢).
والراجح – والله تعالى أعلم – القول الأول، وأن المراد بالحكمة في الآية هي السنة لأمرين :
الأول : ما أشار إليه الإمام الشافعي من أن الله تعالى أخبر أن ما يتلى في بيوتهن شيئان هما : آياته وهي القرآن، والحكمة ولا يمكن أن يراد بها هنا إلا السنة.
الثاني : أن استعمال القرآن يدل عليه حيث ذكر الله – تعالى - الحكمة مقترنةً بالكتاب في ستة مواضع(٣) من القرآن الكريم كلها بمعنى السنة(٤).
وأما ما ورد عن الإمام مالك من أن معنى الحكمة في الآية معرفة الدين والفقه فيه والعمل به(٥)، فقد وجهه شيخ الإسلام كما تقدم بأن ذلك هو ما تضمنته السنة.
سورة الأحزاب : الآية ٧٠
(١) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله ١/١٧، باب قوله - ﷺ - :" لا حسد إلا في اثنتين ".
(٢) تفسير الألوسي ٢٢/٢٠.
(٣) وهي قوله تعالى :... سورة البقرة : الآية ١٢٩.
... وقوله تعالى :... سورة البقرة : الآية ١٥١.
... وقوله تعالى :... سورة البقرة : الآية ٢٣١.
... وقوله تعالى :... سورة آل عمران : الآية ١٦٤.
... وقوله تعالى : سورة النساء : الآية ١١٣.
... وقوله تعالى : سورة الجمعة : الآية ٢.
(٤) انظر : السنة حجيتها ومكانتها في الإسلام للدكتور محمد لقمان السلفي ص٥.
(٥) انظر : تفسير ابن جرير ١/٦٠٧، وجامع بيان العلم وفضله ١/١٧.

وبجاب بأنه على التسليم بأن أصحاب المشأمة المذكورين في سورة الواقعة هم الكفار فإن هذه الآية - آية فاطر – ليست مطابقة لآية الواقعة بل هي خاصة في المصطفين من عباد الله وهم المؤمنون، كما قرر ذلك شيخ الإسلام فيما تقدم(١).
٢ – أن الله – تعالى – لم يصطف من خلقه ظالماً لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم، والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم(٢).
وقد أجاب عنه ابن القيم بما حاصله : بأن كون العبد مصطفى لله لا ينافي ظلم العبد نفسه أحياناً بالذنوب والمعاصي، واستدل لذلك بالكتاب والسنة(٣).
٣ – أن صفوة الله تعالى هم أحباؤه، والله لا يحب الظالمين، فلا يكونون مصطفين(٤).
وأجاب عنه ابن القيم بأن الرجل يمكن أن يكون ولياً لله محبوباً له من جهة ومبغوضاً له من جهة أخرى، وأن ظلمه لنفسه لا يخرجه عن كونه من المتقين أو الذين اصطفاهم الله أو أحبهم(٥).
والقول الراجح – والله تعالى أعلم – القول الأول ؛ لقوة أدلته، وضعف أدلة القول الثاني، ومناقشتها.
(١) أورده ابن القيم في طريق الهجرتين ص٣٦٠.
(٢) أورده ابن القيم في طريق الهجرتين ص٣٤٦.
(٣) طريق الهجرتين ص٣٦١.
(٤) أورده ابن القيم في طريق الهجرتين ص٣٤٦.
(٥) طريق الهجرتين ص٣٦١ وقد ذكر لهم أدلة أخرى ورد عليها.

واختاره الفراء(١)، والنسفي(٢)، وشيخ الإسلام كما تقدم، وأبو حيان(٣)، وابن القيم(٤)، وابن كثير(٥)، والثعالبي(٦)، والبقاعي(٧)، وأبو السعود(٨)، والألوسي(٩)، والشنقيطي(١٠)، وابن عاشور(١١)، وغيرهم، ونسبه الثعالبي(١٢)، للجمهور.
واستدل أصحابُ هذا القول بأدلة منها :
١ - قوله تعالى : ، فإن أول ولد بُشِّر به إبراهيم هو إسماعيل – عليهما السلام – فهو أولُ ولده من غير خلاف، ثم أُمر بذبحه، ثم بعد ذلك بُشِّر بإسحاق(١٣)، وقد رُوى عن محمد بن كعب القرظي أنه قال :" إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل، وإنَّا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أُمرَ به من ذبح ابنه إسماعيل، وذلك أن الله يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم، قال : يقول : بشَّرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، يقول بابن وابنِ ابنٍ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله الموعودُ ما وعدَه الله، وما الذي أُمر بذبحه إلا إسماعيل " (١٤).
(١) معاني القرآن ٢/٣٨٩.
(٢) تفسير النسفي ٢/٤٢٠.
(٣) تفسير أبي حيان ٧/٣٥٦.
(٤) زاد المعاد ١/٧١، وذكر أن القول بأنه إسحاق باطل بأكثر من عشرين وجهاً.
(٥) تفسيره ٤/١٦.
(٦) تفسير الثعالبي ٥/٤٠.
(٧) نظم الدرر ١٦/٢٦١.
(٨) تفسير أبي السعود ٧/٢٠٠.
(٩) تفسيره ٢٣/١٣٦.
(١٠) تفسيره ٦/٦٩١.
(١١) تفسيره التحرير والتنوير ٢٣/١٤٩.
(١٢) ٢/٢٣.
(١٣) وممن استدل بذلك الزجاج ٤/٣١١، والرازي ٢٦/١٣٤، وغيرهم، وذكر الإجماع على أن إسماعيل قبل إسحاق، واستدل ابن كثير في تفسيره ٤/١٦ باتفاق المسلمين وأهل الكتاب على أنه أكبر من إسحاق.
(١٤) أخرجه ابن جرير ١٠/٥١٣، وانظر :[ ط التركي ] ١٩/٥٩٦، والحاكم ٢/٥٥٥، وانظر : تفسير الثعلبي ٨/١٥٢، واستدل به الزمخشري ٣/٣٠٨، وابن كثير ٤/٢١، وقوَّاه شيخ الإسلام كما تقدم.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما – عند هذه الآية :" تلتقي أرواحُ الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم ما شاء الله – تعالى – ثم يمسك الله أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها لا يغلط بشيء من ذلك، فذلك قوله :" (١).
وقال سعيد بن جبير عند هذه الآية :" يجُمع بين أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها " (٢).
وعن السدى أنه قال :" تقُبض الأرواح عند نيامِ النائم، فتقبض روحه في منامه، فتلقى الأرواح بعضها بعضاً، أرواح الموتى وأرواح النيام، فتلتقى فتساءل، قال : فَيُخَلي عن أرواح الأحياء، فترجع إلى أجسادها وتريد الأخرى أن ترجع، فيحبس التى قضي عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، قال : بقية آجالها " (٣).
(١) أخرجه الطبراني في الأوسط ١/٨٤، وأبو الشيخ في العظمة ٣/٨٩٣، والضياء في المختارة ١٠/١٢٣، وذكره السيوطي في الدر ٥/٦١٦، وعزاه أيضاً لعبد بن حميد، وابن جرير ولم أجده فيه عنه بل عن سعيد بن جبير، انظر : تفسيره ٢٠/٢١٥ [ ط التركي ]، وابن المنذر، وقال الهيثمي في المجمع ٧/١٠٠ :" رجاله رجال الصحيح ".
(٢) أخرجه ابن جرير ١١/٩.
(٣) أخرجه ابن جرير ١١/١٠.

القول الخامس : وقال ابن جرير :" حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد، وأوحينا إليه من الموعد له بأنا مُظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون " (١).
والراجح – والله تعالى أعلم – القول الأول، وأن الضمير يعود إلى القرآن لدلالة السياق عليه، ثم إن هذا القول يدل بالاستلزام على بقية الأقوال الأخرى، حاشا القولَ بأنه يعود على الله تعالى، ولذلك جمع بعض المفسرين بين بعض الأقوال، كما اختار ابن عطية أنه عائد على الشرع والقرآن(٢).
(١) تفسير ابن جرير ٢٠/٤٦٢ [ ط التركي ]، وانظر : تفسير القرطبي ١٦/٢٤٤.
(٢) تفسير ابن عطية ١٤/١٩٩.

القول الأول : أنه يعود على الإيمان والقرآن، ولكنَّه وحَّد الهاء ؛ لأن أسماء الأفعال يجمع جميعها الفعل(١).
واختاره الزجاج، وقال :"ولم يقل : جعلناهما ؛ لأن المعنى، ولكن جعلنا الكتاب نوراً، وهو دليل على الإيمان " (٢).
وقال السّمين :" قوله : الضمير يعود : إمّا لـ، وإما
لـ، وإمّا لهما ؛ لأنهما مقصد واحد، فهو كقوله :(٣) " (٤).
واختاره الرازي، وقال :" وحسُن ذلك لأن معناهما واحد، كقوله تعالى :
(٥) " (٦).
واختار هذا القول شيخ الإسلام كما تقدم، وذكر أنه في اللفظ يعود على الروح في قوله تعالى : ووافقه ابن القيم، وقال – رحمه الله – :" وقد اختلف في الضمير في قوله – عزّ وجل – : فقيل : يعود على الكتاب، وقيل : على الإيمان، والصحيح أنه يعود على الروح، في قوله : ، فأخبر تعالى أنه جعل أمره روحاً ونوراً وهدىً، ولهذا ترى صاحب اتباع الأمر والسنة قد كُسي من الروح والنور وما يتبعهما من الحلاوة، والمهابة، والجلالة، والقبول، ما قد حُرمه غيرُه " (٧).
وكذا اختار أنه يعود على الروح الشوكاني(٨).
والروح اختلف فيه المفسرون، منهم من قال : الوحي ؛ وروي عن السدي، ومنهم من قال : الرحمة ؛ وروي عن الحسن، ومنهم من قال : القرآن ؛ وروي عن ابن عباس، ومنهم من قال : النبوة(٩).
(١) حكاه الفراء في معاني القرآن ٣/٢٧، وانظر : تفسير ابن جرير ٢٠/٥٤٣ [ ط التركي ].
(٢) معاني القرآن وإعرابه ٤/٤٠٤.
(٣) سورة التوبة : الآية ٦٢.
(٤) الدر المصون ٩/٥٦٨
(٥) سورة الجمعة : الآية ١١.
(٦) تفسيره ٢٦/١٩٢.
(٧) اجتماع الجيوش الإسلامية ص٤٢.
(٨) تفسيره ٤/٧٦٤.
(٩) انظر : تفسير ابن جرير ٢٠/٥٤٢ [ ط التركي ]، والسمعاني ٥/٨٨، وزاد المسير ٧/٨٨، وتفسير ابن كثير ٣/١٣١، والدر المنثور ٥/٧١٣.

قال قتادة عند هذه الآية :" الملائكة وعيسى وعُزير قد عبدوا من دون الله، ولهم شفاعة عند الله ومنْزلة ".
وعنه في قوله تعالى : قال :" الملائكة وعيسى بن مريم وعزير، فإن لهم عند الله شفاعة " (١).
قال ابن عطية :" والمعنى : فإنهم لا يملكون شفاعة، بأن يمَلّكَها الله إياهم، إذْ هم ممن عُبدَ ممن شهد بالحق وهم يعلمون في كل أحوالهم " (٢).
القول الثاني : أن الاستثناء في الآية منقطع(٣)، والمستثنى منه عيسى وعزير والملائكة
– عليهم السلام -، وقوله : معناه لكن لمن [ أو فيمن ] شهد بالحق فإنه يشفع فيه هؤلاء، وهذا قول مجاهد، ورجحه ابن كثير(٤).
قال مجاهد :" قال : عيسى، وعزير، والملائكة، قال : كلمة الإخلاص، وهم يعلمون أن الله حق، وعيسى وعزير والملائكة ؛ يقول : لا يشفع عيسى وعزير والملائكة، إلا من شهد بالحق، وهو يعلم الحق " (٥).
قال أبوحيان :" وهذا التقدير الذي قدَّروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلاً ؛ لأنه يكون المستثنى منه محذوفاً، كأنه قال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق فهو استثناء من المفعول المحذوف " (٦).
(١) تفسير ابن عطية ٥/٦٧ [ ط دار الكتب العلمية ].
(٢) تفسير ابن عطية ٥/٦٧ [ ط دار الكتب العلمية ].
(٣) الاستثناء المتصل : ما كان فيه المستثنى بعضاً من المستنى منه، والمنقطع : ما لم يكن فيه المستثنى بعضاً من المستثنى منه، مثل قوله تعالى : ، وتكون فيه بمعنى ( لكنْ ) أو ( لكنَّ )، النحو الوافي ٢/٣١٨.
(٤) تفسيره ٤/١٤٧.
(٥) أخرجه ابن جرير ١١/٢١٨، وانظر : الدر المنثور ٥/٧٣٦، وروي عن سعيد بن جبير، انظر : تفسير القرطبي ١٦/١٢٢.
(٦) تفسير أبي حيان ٨/٣٠، وانظر : الدر المصون ٩/٦١١.

فقوله سبحانه : تحقيق أن ما وعدتكم به يكون لا محالة بمشيئتي وإرادتي ؛ فإن ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن ; فكان الاستثناء هنا لقصد التحقيق ؛ لكونهم لم يحصل لهم مطلوبهم الذي وعدوا به ذلك العام، وأما سائر ما وعدوا به فلم يكن كذلك " (١).
الدراسة :
هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان رسول الله - ﷺ - رأى في المنام أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة من أصحابه أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلمَّا وقع ما وقع من الصلح، ورجعوا عامَهم ذلك على أن يعودوا من قابِل، وقع في نفس بعض الصحابة - رضي الله عنهم - من ذلك شيء، فراجعوا رسول الله - ﷺ -، فأعلمهم أنه لم يَعدهم بذلك هذا العام، وأنهم سيأتونه ويطوفون به، فنَزلت هذه الآية(٢).
وهذه الآية فيها إشكال، حيث علَّق الله تعالى وَعْده هذا بالمشيئة التي تقتضى الشك في الأمر، ومعلوم أن ما أخبر عنه تعالى كائن لا محالة.
واختلف المفسرون في معنى الاستثناء المذكور إلى الآية : على أقوال سبعة :
القول الأول : أن الاستثناء هنا لقصد التحقيق، أي : إن ما وعدتكم به من دخول المسجد الحرام آمنين يكون لا محالة بمشيئتي وإرادتي، وهذا كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة : والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، بل تحقيقاً لعزمه وإرادته. وهذا رأي شيخ الإسلام كما تقدم، ووافقه ابن كثير، وقال :" هذا لتحقيق الخبر وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء " (٣).
(١) مجموع الفتاوى ٧/٤٥٤ – ٤٥٧.
(٢) انظر : تفسير ابن جرير ١١/٣٦٧، وابن كثير ٤/٢١٥، والدر المنثور ٦/٧٩.
(٣) تفسيره ٤/٢١٥، وانظر : تفسير الرازي ٢٨/٩١.

واختاره بعض المفسرين، وممن اختاره ابن جرير(١)، وشيخ الإسلام - كما تقدم -، وابن القيم(٢)، وابن كثير(٣)، وابن أبي العز(٤)، والسعدي(٥)، واللالكائي(٦).
وأدلة هذا القول هي ما ذكره شيخ الإسلام في كلامه المتقدم.
القول الثاني : أن الإيمان المنفي عنهم في هذه الآية هو مسماه الشرعي الصحيح، والإسلام المثبت لهم فيها هو الإسلام اللغوي الذي هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين.
(١) تفسيره ١١/٤٠١.
(٢) بدائع الفوائد ٣/٩٩.
(٣) تفسيره ٤/٣٢٤.
(٤) شرح العقيدة الطحاوية ٢/٤٩٠.
(٥) تفسيره ص٨٠٢.
(٦) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ٢/٨٩٢.

المراد بسكرة الموت غَمْرَتُهُ وشدته، التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله(١).
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى : على قولين :
القول الأول : أن المراد بالحق من أمر الآخرة، فأبانت للإنسان ما لم يكن بيناً له من أمر الآخرة.
قال ابن عطية :" معناه : بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا " (٢).
وقال الشوكاني :" ومعنى : أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد " (٣).
وهكذا قال ابن جزي(٤).
القول الثاني : أن معنى قوله تعالى : بحقيقة الموت(٥)، وهو ظاهر اختيار الزجاج(٦)، واختاره الفراء(٧)، قال :" سمي حقاً لاستحقاقه، أو لانتقاله إلى دار الحق "، واختاره الماوردي(٨).
وفي الآية قراءة أخرى شاذة تشهد لهذا المعنى :( وجاءت سكرة الحق بالموت )(٩).
قال ابن جرير :" ولهذه القراءة وجهان :
١- وجاءت سكرة الله بالموت، فيكون الحق هو الله تعالى ذكره(١٠).
(١) تفسير ابن جرير ١١/٤١٧، والوسيط للواحدي ٤/١٦٦، وابن الجوزي ٧/١٩٣.
قال ابن عطية :" عطف عندي على قوله : فالتقدير : وإذْ تجيء سكرة الموت، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقاً وتثبيتاً للأمر، وهذا أحث على الاستعداد واستشعار القرب، وهذه طريقة العرب في ذلك، ويبين هذا في قوله : ،، فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال " ١٥/١٧٢.
(٢) تفسيره ١٥/١٧٣.
(٣) تفسيره ٥/١٠٧.
(٤) تفسيره ٢/٣٦٤.
(٥) تفسير ابن جرير ١١/٤١٦.
(٦) معاني القرآن وإعرابه ٥/٤٥.
(٧) معاني القرآن ٢/٧٨.
(٨) تفسيره ٥/٣٤٨.
(٩) رويت عن أبي بكر وابن مسعود – رضي الله عنهما -، انظر : المحتسب لابن جني ٢/٢٨٣، وتفسير ابن جرير ١١/٤١٧، وتفسير ابن عطية ٥/١٦١.
(١٠) قال ابن عطية ٥/١٦١ :" وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بُعد ".

وأيضاً فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم لأن الله خلقه لشيء فلم يفعل ما خلق له ولهذا عقبها بقوله :(١)، فإثبات العبادة ونفي هذا يبين أنه خلقهم للعبادة ولم يرد منهم ما يريده السادة من عبيدهم من الإعانة لهم بالرزق والإطعام ; ولهذا قال بعد ذلك :(٢)، أي نصيباً أي : المتقدمين من الكفار، أي : نصيباً من العذاب، وهذا وعيد لمن لم يعبده من الإنس والجن ; فذكر هذا الوعيد عقيب هذه الآية من أولها إلى آخرها يتضمن وعيد من لم يعبده ".
ثم بيّن أن سياق السورة وآياتها من أولها تتضمن أمر الإنس والجن بعبادة الله وطاعته وطاعة رسله، وعاقبة المخالفين في الدنيا والآخرة، ثم قال بعد ذلك :" فدل ذلك على أن الله إنما خلق الإنس والجن جميعاً لعبادته ".
ثم قال :" فإذا قيل : لم يرد بذلك إلا المؤمنين كان هذا مناقضاً لما تقدم - يعني في السورة - وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه وغايته يقول : أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك ولو خلقتني لها لكنت عابداً وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك وأكذب رسلك وأعبد الشيطان وأطيعه وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له فلا ذنب لي ولا أستحق العقوبة ; فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول وكلام الله منَزه عن هذا ".
ثم ذكر القول الثاني في تفسير الآية، وهو أن الآية عامة، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأن أصارهم إلى ما خلقهم له من السعادة والشقاوة، وذكر ما ورد عن زيد بن أسلم ووهب بن منبه في هذا المعنى.
(١) سورة الذاريات : الآية ٥٧.
(٢) سورة الذاريات : الآية ٥٩.

قال الرازي :" وكون الإشارة إلى القرآن بعيد لفظاً ومعنى، أما معنى : فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى، ثم إنه تعالى لما بيّن الواحدانية وقال :(١)، قال : ، إشارة إلى محمد - ﷺ -، وإثباتاً للرسالة، ثم قال بعد ذلك :(٢)، إشارة إلى القيامة ؛ ليكون في الآيات الثلاث المرتبة إثبات أصول ثلاث مرتبة، وذكر ضعفه من حيث اللفظ، وأنه لو كان المراد القرآن لقال : هذا نذر، وفيه غموض(٣).
القول الثالث : أن المراد : هذا الذي أنذرتكم به من الوقائع التي ذكرت لكم أني أوقعتها بالأمم قبلكم، من النذر التي أنذرتها الأمم قبلكم في صحف إبراهيم وموسى، وبه قال أبو مالك(٤).
واختاره ابن جرير، واستدل له بقوله :" وذلك أن الله - تعالى ذكره – ذكر ذلك في سياق الآيات التي أخبر عنها أنها في صحف إبراهيم وموسى(٥)، نذير من النذر الأولى التي جاءت قبلكم كما جاءتكم، فقوله : بأن تكون إشارة إلى ما تقدمها من الكلام أولى وأشبه منه بغير ذلك " (٦).
قال القرطبي :" من النذر، أي : مثل النذر، والنُّذر في قول العرب بمعنى الإنذار، كالنُّكر بمعنى الإنكار، أي هذا إنذار لكم " (٧).
وشيخ الإسلام اختار الجمع بين القولين الأولين، ورأى أن كلاً منهما مراد، ولا تعارض بينهما، وهو ظاهر اختيار بعض المفسرين، وممن أجاز حملها على المعنيين الزمخشري(٨)، والبيضاوي(٩)، والقاسمي(١٠).
(١) سورة النجم : الآية ٥٥.
(٢) سورة النجم : الآية ٥٧.
(٣) تفسير الرازي ٢٩/٢٣.
(٤) أخرجه عنه ابن جرير ١١/٥٤٠.
(٥) يعني قوله تعالى : النجم : الآيات ٣٦ – ٣٧ وما بعدها من الآيات.
(٦) تفسير ابن جرير ١١/٧٩.
(٧) تفسير القرطبي ١٧/٧٩.
(٨) تفسيره ٤/٤٣.
(٩) تفسيره ٢/٤٤٣.
(١٠) تفسيره محاسن التأويل ١٥/٢٥٦.

– كما تقدم -، وأيّد هذا القول، وردّ على من قال : إن المراد المصحف لا يمسه إلا طاهر، وذلك من عشرة وجوه، وإليك جملةً كلامه عند هذه الآية :" والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله : ويدل علىأنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله : فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه وهذا هو الصحيح في معنى الآية، ومن المفسرين من قال : إن المراد به أن المصحف لا يمسه إلا طاهر، والأول أرجح لوجوه :
أحدها : أن الآية سيقت تنْزيهاً للقرآن أن تنْزل به الشياطين، وأن محله لا يصل إليه فيمسه إلا المطهرون، فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه، أو يمسوه كما قال تعالى :(١)، فنفى الفعل وتأتيه منهم وقدرتهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه ؛ فإن الفعل قد ينتفي عمن يحسن منه وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنفى عنهم الأمور الثلاثة، وكذلك قوله في سورة عبس : ، فوصف محله بهذه الصفات بياناً أن الشيطان لا يمكنه أن يتنَزل به، وتقرير هذا المعنى أهم وأجمل وأنفع من بيان كون المصحف لا يمسه إلا طاهر.
الوجه الثاني : أن السورة مكية والاعتناء في السور المكية إنما هو بأصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة، وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنه السور المدنية.
الثالث : أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله، وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر، وهذا وإن جاز أن يكون باعتبار ما يأتي فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الإخبار يوضحه :
(١) سورة الشعراء : الآيتان ٢١٠ – ٢١١.

القول الأول : أن معنى أنزلنا، أنشأنا وخلقنا، كقوله عز وجل :(١) (٢)، قال ابن عطية :" وأيضاً فإن الأمر بكون الأشياء لما تُلقّى من السماء، جُعل نزولاً منها " (٣)، واختاره أبو حيان(٤)، والشوكاني(٥)، وابن عاشور(٦).
(١) سورة الزمر : الآية ٦.
(٢) ذكره الواحدي في الوسيط ٤/٢٥٣، والسمعاني في تفسيره ٥/٣٧٨، وابن الجوزي ٧/٣٠٠، وابن عطية ١٥/٤٢٧، وقال القرطبي ١٧/١٦٩ :" وهذا قول الحسن "، واختلف المفسرون في آية الزمر فمنهم من قال أنزل : بمعنى خلق، ومنهم من قال : جعلها نُزُلاً ورزقاً، ومنهم من قال : أنزل الماء الذي ينبت به النبات فتعيش منه، وقيل : إن الله خلقها في الجنة ثم أنزلها على الأرض. انظر : تفسير ابن جرير ١٠/٦١٤، والبغوي ٤/٧٢، وابن الجوزي ٧/٥، والقرطبي ١٥/١٥٢، وابن جزي ٢/٢٦٤، وشيخ الإسلام يرى أن المراد أن الأنعام تنْزل من بطون أمهاتها، ومن أصلاب آبائها تأتي بطونَ أمهاتها، والأنعام غالب إنزالها مع قيامها على رجليها، وارتفاعها على ظهور الإناث. مجموع الفتاوى ١٢/٢٥٤، وفيه تكلف.
(٣) تفسيره ١٥/٤٢٧.
(٤) تفسيره ٨/٢٢٥.
(٥) تفسيره ٥/٢٥٣.
(٦) تفسيره ٢٧/٤١٧.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - في حديث طويل أنه قال :" فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخرُّ كل من كان بظهرِ طَبَق(١) ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر(٢)، يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " (٣).
واختار هذا القول بعض العلماء، كشيخ الإسلام - كما تقدم -، وابن القيم(٤)، والشوكاني(٥)، وصديق حسن(٦).
القول الثاني : أن المعنى : يوم يكشف عن شدة، وأمر عظيم.
وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ أنه سئل عن قوله عز وجل : ، قال :" إذا خفى عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر :
اصبر عناقُ إنه شرٌّ باق قد سن قومُك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا عن ساق
(١) الطَّبق : فَقَارُ الظَّهر واحدتها طَبقة، النهاية ٣/١٤.
(٢) صياصي البقر : قرونها، واحدتها صِيْصَة، النهاية ٣/٦٧.
(٣) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة ٢ /٥٢٢ ح١٢٠٣، والبيهقي في البعث والنشور رقم ٤٣٤ ص ٢٥٢، والحاكم ٤/٥٨٩ بلفظ " فيكشف عن ساق "، وقال : صحيح ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وصححه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية ١٥/٣٨٠ والمنذري في الترغيب والترهيب ٤/٢٩٨، وانظر : المنهل الرقراق في تخريج ما روي عن الصحابة والتابعين في تفسير.
(٤) الصواعق المرسلة ١/٢٥٣.
(٥) تفسيره ٥/٣٩٥.
(٦) فتح البيان في مقاصد القرآن ١٤/٢٧٣.

والراجح - والله تعالى أعلم - قول من أجاز حمل الآية على المعنيين، إذْ لا مانع معتبر من ذلك لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى.
سورة الشمس : الآية ٨
قال تعالى :(١).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بالإلهام في الآية إلهام الوحي بالتقوى، ووسوسة الشيطان بالفجور.
قال - رحمه الله - عند هذه الآية :" فهو سبحانه يلهم الفجور والتقوى للنفس، والفجور يكون بواسطة الشيطان، وهو إلهام وسواس، والتقوى بواسطة ملك، وهو إلهام وحي، هذا أمر بالفجور وهذا أمر بالتقوى والأمر لا بد أن يقترن به خبر، وقد صار في العرف لفظ الإلهام إذا أطلق لا يراد به الوسوسة.
وهذه الآية مما تدل على أنه يفرق بين إلهام الوحي وبين الوسوسة، فالمأمور به إن كان تقوى الله فهو من إلهام الوحي وإن كان من الفجور فهو من وسوسة الشيطان، فيكون الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة فإن كان مما ألقي في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله فهو من الإلهام المحمود، وإن كان مما دل على أنه فجور فهو من الوسواس المذموم، وهذا الفرق مطرد لا ينتقض.
وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال : ما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه " (٢).
وقال - رحمه الله - عند هذه الآية :" قيل : هو البيان العام، وقيل : بل ألهم الفاجر الفجور، والتقي التقوى، وهذا في تلك الآية(٣) أظهر ؛ لأن الإلهام استعماله مشهور في
إلهام القلوب، لا في التبيين الظاهر الذي تقوم به الحجة.
وقد علم النبي - ﷺ - حُصيناً الخزاعي لما أسلم أن يقول :" اللهم ألهمني رشدي، وقني
(١) سورة الشمس : الآية ٨.
(٢) مجموع الفتاوى ١٧/٥٢٩ – ٥٣٠ وما بعدها.
(٣) يريد هذه الأمة.

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - ﷺ - :" إذا كان العبد على طريقة من الخير فمرض أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل ثم قرأ :
" (١).
وضعَّفه ابن القيم بأن الاستثناء إنما وقع من الرد لا من الأجروالعمل(٢).
وقيل : إن قوله تعالى : غير متصل بما قبله، بل هو استثناء منقطع، والمعنى : لكن الذين آمنوا لهم أجر غير ممنون(٣).
والاستثناء على القول الأول متصل ظاهر الاتصال، وعلى الثاني منقطع يعني : ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمي، فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم(٤).
والراجح - والله أعلم - القول الأول، وأن الاستثناء متصل ؛ لأن المراد بـ النار - أعاذنا الله منها - وتقدم تقرير ذلك في المسألة الأولى، وأما القولان الآخران فهما ضعيفان، وذلك لما يَرِدُ عليهما من الاعتراضات الظاهرة.
سورة التين : الآية ٧
قال تعالى :(٥).
اختار شيخ الإسلام أن الخطاب في الآية للرسول - ﷺ -.
قال - رحمه الله - عند هذه الآية :" وفي قوله : قولان. قيل : هو خطاب للإنسان كما قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ولم يذكر البغوي غيره. قال عكرمة : يقول : فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك. وعن مقاتل : فما الذي يجعلك مكذباً بالجزاء، وزعم أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة.
(١) ذكره في الدر ٦/٦٢٢، وعزاه لابن مردويه، وأصله في الصحيح بدون ذكر الآية، وتقدم تخريجه.
(٢) التبيان ص٣٢.
(٣) تفسير السهيلي ٢/٥٨٨.
(٤) الكشاف ٤/٢٢٣، وانظر : تفسير الرازي ٣١/٢١، وأبي حيان ٨/٤٨٦.
(٥) سورة التين : الآية ٧.

القول الأول : أن المراد بالبينة محمد - ﷺ - والمعنى : لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بُعث، فلما بُعث تفرقوا فيه، فكذب به بعضهم، وآمن بعضهم ؛ قاله أكثر المفسرين(١)، واختاره ابن جرير(٢)، وبه قال عكرمة(٣)، واختاره الزمخشري وقال :" يعني أنهم كانوا يعدِّون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق، ولا أقرَّهم على الكفر إلا مجيء الرسول - ﷺ -، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً، فيقول واعظُه : لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار، يذكِّره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً " (٤).
واختاره أيضاً الواحدي(٥)، والشوكاني(٦)، والألوسي(٧).
القول الثاني : أنها القرآن ؛ قاله أبو العالية(٨).
وقال القرطبي :" أي أتتهم البينة الواضحة، والمعنيُّ به محمد - ﷺ - ؛ أي : القرآن موافقاً لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته..." (٩).
ونظيره قوله :(١٠).
ولعلَّ هذين القولين الأول والثاني متلازمان، فإن القرآن دليل صدق الرسول - ﷺ -.
القول الثالث : أنها ما في كتب أهل الكتاب من بيان نبوته - ﷺ -.
(١) نسبه للأكثرين ابن الجوزي ٨/٢٨٩، ونسبه الشوكاني ٥/٦٨٤ للجمهور.
(٢) تفسيره ١٢/٦٥٦.
(٣) نسبه إليه ابن الجوزي ٨/٢٨٩.
(٤) تفسيره ٤/٢٢٦.
(٥) الوسيط ٤/٥٣٩.
(٦) فتح القدير ٥/٦٨٤.
(٧) تفسيره ٣٠/٢٠٢.
(٨) نسبه إليه ابن الجوزي ٨/٢٨٩.
(٩) تفسيره ٢٠/٩٧.
(١٠) سورة طه : الآية ١٣٣.

ورجح القول بأن التكرار هنا للتوكيد الشوكاني، وقال :" اعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ومن مذاهبهم التي لا تجحد واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا ؛ كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ؛ لأنه إنما يستدل على مافيه خفاء ويبرهن على ماهو متنازع فيه، وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ولا يرتاب فيه مرتاب فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل، وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمن وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يتأتى عليه الحصر " (١).
القول الثاني : أنه لنفي الحال والاستقبال، والمعنى : من الأوثان في حالي هذه، في حالكم هذه، فيما استقبل، فيما مضى، فيما تستقبلون أبداً أنا الآن، وفيما استقبل، وهذا في قوم بأعيانهم، أعلمه الله – عزّ وجل – أنهم لا يؤمنون أبداً فكانوا كذلك(٢).
واسْتدل له ابن جرير بما ورد في سبب نزول السورة ؛ فعن ابن عباس – رضي الله
(١) فتح القدير ٥/٧٣٧.
(٢) انظر : تفسير ابن جرير ١٢/٢٧٢، وابن الجوزي ٨/٣٢٣.

واختار ابنُ جرير العموم، وأن الله أمر بالاستعاذة من كل غاسق إذا وقب، وإليك نص كلامه :" وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله أمر نبيه أن يستعيذ من شر غاسق وهو الذي يظلم، يقال : قد غسق الليل يغسق غسوقاً إذا أظلم، إذا وقب : يعني إذا دخل في ظلامه، والليل إذا دخل في ظلامه غاسق، والنجم إذا أفل غاسق، والقمر غاسق إذا وقب، ولم يخصص بعض ذلك بل عم الأمر بذلك، فكل غاسق فإنه كان يؤمر بالاستعاذة من شرِّه إذا وقب " (١).
ولابن القيم كلام نحو كلام شيخ الإسلام(٢).
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه هو الراجح، ويُستدل له بقاعدة : إذا احتمل اللفظ عدة معاني ولم يمتنع إرادةُ الجميع حُمل عليها(٣)، قال شيخ الإسلام :" وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعداً " (٤).
وهناك أقوال شاذة في الآية، حيث ذكر النقاش(٥) بإسناده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال :" من شر الذَّكر إذا دخل " (٦).
وقال الزمخشري :" يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيَّات، ووقْبُه ضربه، ونَقْبُه، والوَقْب : النَّقْب " (٧).
وقيل : إنه إبليس(٨).
(١) تفسيره ١٢/٧٥٠.
(٢) انظر : بدائع الفوائد ٢/٣٥٧ – ٣٥٩.
(٣) قواعد التفسير ٢/٨٠٧، ٨١٦.
(٤) مجموع الفتاوى ١٥/١١.
(٥) هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن محمد بن زياد المقرئ، المعروف بالنقاش، الموصلي البغدادي، كان عالماً بالقرآن والتفسير، من مؤلفاته : الإشارة في غريب في غريب القرآن، والموضح في القرآن ومعانيه، ولد سنة ٢٦٥هـ، وتوفي سنة ٣٥١هـ. انظر : تاريخ بغداد ٢/٢٠١ ترجمة رقم (٦٣٥).
(٦) تفسير السمعاني ٦/٣٠٦، وذكر إقرار محمد بن إسحاق بن خزيمة لهذا التفسير.
(٧) تفسيره ٤/٢٤٣، وانظر : القرطبي ١٧/١٧٥، وضعَّفه الرازي ٣٢/١٧٨، والألوسي ٣٠/٢٨٢.
(٨) ذكره ابن جزي في تفسيره ٢/٦٢٩.

أما إنهما ليسا بالثديين... الربيع بن خُثيم
أمره إذا فرغ من صلاته أن يبالغ في دعائه... مقاتل
أنتم يا أهل حروراء... علي بن أبي طالب
أي : التمسوا له الأطباء... قتادة
إن داوود استخلفه في حياته على بني إسرائيل... الضحاك
إن من الناس شياطين، وإن من الجن شياطين... قتادة
إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه... الحسن
إنما يكتب الخيرُ والشرُّ... ابن عباس
إنهن من أيامى المسلمين... ابن المسيب
استيقني، فقد جاءك البيان من الله... قتادة... ، ٦٤٩
التي تلوم على الخير والشر... ابن عباس
الذي لا حِشْوة له... ابن المسيب
الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب... الشعبي
الذي لا يكافئه من خلقه أحد... كعب الأحبار
الذي لم يخرج منه شيء ولم يلد ولم يولد... عكرمة
الذين ظلموا منهم : أهل الحرب... مجاهد
الباقي بعد خلقه... قتادة
بيَّن الخير والشر... ابن عباس
تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله... قتادة
تقبض الأرواح عند نيام النائم... السدي
تلوم على الخير والشر... عكرمة وابن جبير
الحمد لله الذي قال... عطاء بن يسار
خاشعة في النار... قتادة
تعدون أنتم الفتح فتح مكة... البراء بن عازب... ٤٦٢
تلتقي أرواح الأحياء في المنام بأرواح الموتى... ابن عباس... ، ٢٨٧
تندم على ما فات، وتلوم عليه... ابن عباس
ساهٍ عنها، لا يبالي صلى أم لم يصل... قتادة
سبحان ربي الأعلى... علي وابن عباس... ، ٥٦٢
سبيل الخير، وسبيل الشر... ابن مسعود وعلي... ، ٥٩٣
سبيل السعادة والشقاوة... مجاهد
سبيل الهدى والضلال... ابن عباس... ، ٥٩٣
سجودها تحول ظلالها... مجاهد... ١١٩
السيد الذي كمل في سؤدده... ابن عباس
السيد الذي يصمد إليه في الحوائج... ابن عباس
الصلاة مكيال من وفَّى وُفِّي له... سلمان الفارسي
الصمد : الذي ليس فوقه أحد... عكرمة
الصمد : الباقي بعد خلقه... قتادة
الصَّمد : الدائم... قتادة
الصمد : السيد الذي كمل في سؤدده... ابن عباس
الصمد : السيد الذي قد انتهى سؤدده... أبو وائل
عجلتَ، إن النبي - ﷺ - لم يكن بطن من قريش... ابن عباس... ، ٣٢١
عدلت شهادة الزور الإشراك بالله... ابن مسعود


الصفحة التالية
Icon