و( النُّمَيْرِي ) نسبة إلى بني نُمير، القبيلة العربية المعروفة(١).
مولده ونشأته :
ولد – رحمه الله – بحرَّان(٢)، يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة، في بيت علم وفضل ودين، فأبوه وأجداده، وكثير من أهل بيته من العلماء، ولمَّا تمَّ له ستُ سنين، وذلك في عام ٦٦٧هـ، هاجر مع والده وأهل بيته من حرَّان إلى دمشق، وذلك بسبب جَور التتار، وقد حَملوا معهم كتبهم في رحلة شاقة، أنجاهم الله فيها من قبضة التتار.
وقد نشأ – رحمه الله – نشأةً صالحةً، فكان تقياً ورعاً، عفيفاً، صوَّاماً، قوَّاماً، باراً بوالديه، مقتصداً في المأكل والملبس، معرِضاً عن الدنيا، ولم يتزوج ولم يتسرَّ(٣).
قال عنه تلميذه الذهبي :" والله ما مَقَلَت عيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، كان إماماً متبحراً في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيَّال الفهم، كثير المحاسن، موصوفاً بِفَرْط(٤) الشجاعة والكرم، فارغاً من شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه، والعمل بمقتضاه " (٥).

(١) انظر : التبيان لبديعة الزمان، ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام ص٤٩٢.
(٢) حَرَّان : بلدة مشهورة في الجزيرة الفراتية بين الشام والعراق، ليست هي التي بقرب دمشق، ولا التي في تركيا، ولا التي بقرب حلب. أفاده الشيخ العلامة بكر أبو زيد في المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية ص١٦.
(٣) أفاده ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة ٢/٣٩٥، قال الشيخ بكر أبو زيد :" لا رغبة عن هذه السُّنة، ولكنه مثقل الظهر بهموم العلم، والدعوة، والجهاد " المداخل ص٢٣.
(٤) الفَرْطُ : تجاوز الحد. انظر : المعجم الوسيط ٢/٦٨٣ مادة (فرط).
(٥) المعجم المختصُّ ص٢٥ - ٢٧ ط٢، والجامع لسيرة شيخ الإسلام ص٢٧٩.

القول الثاني : أنه الكذب ؛ قاله ابن عباس – رضي الله عنهما –(١)، ومجاهد(٢)، واختاره السمعاني(٣).
القول الثالث : أنه الشرك ؛ قال مقاتل :" يعني الشرك بالكلام، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك " (٤).
القول الرابع : أن قول الزور يشمل كل قول باطل، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام كما تقدم، وهذا قول الزجاج حيث قال عند هذه الآية :" الزور : الكذب، وقيل إنه ههنا الشرك بالله، وقيل أيضاً شهادة الزور، وهذا كله جائز، والآية تدلُّ - والله أعلم – على أنهم نهوا أن يحرموا ما حرَّم أصحابُ الأوثان نحو قولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، ونحو نحرهم البحيرة والسَّائبة، فأعلمهم الله أن الأنعام محلَّلةٌ إلا ما حرم الله منها، ونهاهم الله عن قول الزور أن يقولوا هذا حلال، وهذا حرام ليفتروا على الله كذباً " (٥)، وهو ظاهر اختيار ابن جرير(٦).
(١) أخرجه ابن جرير ٩/١٤٤.
(٢) أخرجه ابن جرير ٩/١٤٤ من طريقين، وعزاه في الدر ٤/٦٤٦ لابن أبي حاتم.
(٣) تفسيره ٣/٤٣٦.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم، انظر : الدر ٤/٦٤٦.
(٥) معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٢٥.
(٦) تفسيره ٩/١٤٤.

فالآية محكمة ؛ لأنها على القول بأن المراد بالنكاح الوطء لا تعارض بين الآيتين، فهذه الآية في الوطء وتلك في العقد، وعلى تفسير النكاح هنا بالعقد تكون هذه الآية مخصصة لتلك(١)، وقد مضى القول بأن النسخ لا يلجأ إليه إلا عند تعذّر الجمع، مع قيام الدليل على ذلك.
القول الرابع : أن المراد بالآية : أن الزاني المَحْدودَ والزانية المحدودة لا يتزوجان إلا بأمثالهما، واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال :" لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " (٢)، وبه قال الحسن(٣).
قال النحاس :" هذا الحديث يجوز أن يكون منسوخاً كما نسخت الآية في قول سعيد بن المسيب " (٤).
وضعّف هذا القول، وهذا الحديث جمع من المفسرين منهم ابن العربي، حيث قال :" وهذا معنى لا يصح نظراً، كما لم يثبت نقلاً..." (٥).
وقال ابن عطية :" وهذا حديث لا يصح، وقول فيه نظر، وإدخال المشرك في الآية يردُّه، وألفاظ الآية تأباه، وإن قدَّرت المشركة بالكتابية، فلا حيلة في لفظ المشرك " (٦).
(١) انظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس ٢/٤٤٣ ح٢، والنسخ في القرآن الكريم ٢/٧٩٧.
(٢) أخرجه أبو داود ٢/٥٤٣ ح٢٠٥٢، كتاب النكاح، باب قوله الله تعالى : ، والحاكم ٢/١٩٣، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي ٧/١٥٦، وعزاه في الدر ٥/٤٠ لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ٢/٣٨٦.
(٣) أخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ ٢/٥٤٠.
(٤) الناسخ والمنسوخ ٢/٥٤٢.
(٥) أحكام القرآن ٢/٥٤٢.
(٦) تفسيره ١١/٢٦٩.

ب - أن استقراء القرآن العظيم يدل على هذا المعنى كقوله تعالى :(١)، وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في هذه الآية الكفار، ويدل له مقابلة الموتى في قوله : بالذين يسمعون في قوله : ، ولو كان المراد بالموتى من فارقت أرواحُهم أبدانَهم لقابل الموتى بما يناسبهم كأن يقال : إنما يستجيب الأحياء.
ج - أن هذه الآية وما في معناها من الآيات كلها تسلية له - ﷺ - ؛ لأنه يحزنه عدم إيمانهم كما بينه تعالى في آيات كثيرة، ولو كان المراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له - ﷺ -.
التفسير الثاني : هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبُه به، وأن هذا مَثل ضُرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع، كما قال تعالى :
(٢)، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن يُنفى عنهم جميع أنواع السماع كما لم يُنْفَ ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به(٣).
والراجح - والله تعالى أعلم - ما ذهب إليه عامة المفسرين من أن المراد بالموتى في الآية الكفار الذين كتب الله عليهم الشقاء ؛ وذلك لأن سياق الآية واستعمال القرآن يدل عليه.
سورة النمل : الآية ٨٧
قال تعالى :(٤).
اختار شيخ الإسلام أنه لا يمكن الجزم بتعيين كل من استثناه الله تعالى في هذه الآية من الصعق.
(١) سورة الأنعام : الآية ٣٦.
(٢) سورة البقرة : الآية ١٧١.
(٣) أضواء البيان ٦/٤١٦، بتصرف واختصار.
(٤) سورة النمل : الآية ٨٧.

قوله تعالى :(١).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بقوله تعالى : هو الصوابُ العدلُ المطابقُ للحق.
قال - رحمه الله – عند هذه الآية :" والسديد السَّادُّ الصواب المطابق للحق من غير زيادة ولا نقصان، وهو العدل والصدق " (٢).
وقال – رحمه الله - :" ومنه القول السديد. قال تعالى : ، وعن قتادة ومقاتل : عدلاً، وعن السدي : مستقيماً، وكل هذه الأقوال صحيح ؛ فإن القول السديد هو المطابق الموافق ؛ فإن كان خيراً كان صدقاً مطابقاً لمخبره، لا يزيد ولا ينقص، وإن كان أمراً كان أمراً بالعدل الذي لايزيد ولا ينقص، ولهذا يفسرون السَّداد بالقصد والقصد بالعدل " (٣).
الدراسة :
اختلفت عبارات المفسرين في بيان معنى قوله تعالى :.
فَرُوِِي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال :" صواباً " (٤)، وعن عكرمة :" قولوا لا إله إلا الله "، وعن قتادة :" عدلاً "، وعن مجاهد :" سداداً " (٥)، وعن الحسن :" صادقاً " (٦).
وقد قال بعض المفسرين :" المراد : قولوا سديداً في شأن زينب وزيد – رضي الله عنهما - ولا تنسبوا النبي - ﷺ - إلى ما لا يحل " (٧).
(١) سورة الأحزاب : الآية ٧٠.
(٢) مجموع الفتاوى ٢٠/٢٨٥.
(٣) مجموع الفتاوى ١٧/٢٣٠.
(٤) ذكره عن الثعلبي ٨/٦٧، والواحدي في الوسيط ٣/٤٨٤، والبغوي ٣/٥٤٧.
(٥) تفسير ابن جرير ١٠/٣٣٨، وابن أبي حاتم ١٠/٣٥٨.
(٦) الوسيط للواحدي ٣/٤٨٤، وقيل غير ذلك، انظر : تفسير الماوردي ٤/٤٢٨.
(٧) روى ذلك عن قتادة ومقاتل، انظر : تفسير القرطبي ١٤/١٦٢، وانظر : تفسير الزمخشري ٣/١٤٨.

وقد بيَّن الشنقيطي أن البشارة الأولى : غير البشارة الثانية :... وأنه لا يجوز حَمْلُ كتاب الله على أن معناه : فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضاً : ، فهو تكرار لا فائدة فيه، يُنَزه عنه كلام الله، وقرَّر أن النصَّ إذا احتمل التأسيس والتأكيد معاً، وجب حمله على التأسيس إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وقرَّر أيضاً أن العطف في اللغة العربية يقتضي المغايرة(١).
وأجيب بأن البشارة الثانية بنبوته(٢)، ورُدَّ بأن البشارة وقعت على الجميع ذاته، ووجوده، وأن يكون نبياً ولهذا نصب على الحال المقدَّر، أي : مقدراً نبوته(٣)، ومن أوجه الاستدلال بالآية أن الله – تعالى – وَصَف إسماعيل - عليه السلام - في هذه الآية بالحلم ؛ لأنه مناسب للمقام، فلا أحلمَ ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لله.
وأما إسحاق فقد وصفه في آياتٍ أُخرى بالعلم، كما في قوله تعالى :(٤) (٥).
٢ - قوله تعالى :(٦) فقد بَشَّر الله تعالى بإسحاق، وأخبر أنه سيبقى حتى يُولد له يعقوب، فكيف يؤُمر إبراهيم - عليه السلام - بذبحه وما زال صغيراً لم يولد له(٧).
(١) انظر : أضواء البيان ٦/١٩٢.
(٢) ذكره الزجاج ٤/٣١١، والواحدى في الوسيط ٤/٥٣١، وبه أحاب ابن جرير١٠/٥١٥ وغيرهم.
(٣) ذكر ذلك ابن القيم في الزاد ١/٧٣، وانظر : تفسير ابن كثير ٤/٢١، والشنفيطي ٦/٦٩٢.
(٤) سورة الحجر : الآية ٥٣.
(٥) ذكره شيخ الإسلام كما تقدم، وابن القيم في الزاد ١/٧٤، وابن كثير ٤/١٦.
(٦) سورة هود : الآية ٧١.
(٧) استدل به محمد بن كعب القرظي كما تقدم، وشيخ الإسلام كما تقدم، وذكره النحاس في المعاني ٦/٤٩، واستدل به الزمخشري ٣/٣٠٨، والرازي ٢٦/١٣٤، والقرطبي ١٥/٦٨، والشنقيطي ٦/٦٩٢ وغيرهم.

واختاره ابن جرير(١)، والرازي(٢)، و ابن جُزي(٣)، وأبو حيان(٤)، والألوسي(٥)، وابن القيم، وقال :" لأنه سبحانه أخبر بوفاتين : وفاة كبرى وهى وفاة الموت، ووفاة صغرى وهى وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين، قضي عليها بالموت فأمسكها عنده وهى التى توفاها وفاة الموت، وقسم لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولاً، فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التى لم تمت هى التى توفاها في منامها، فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين وفاة موت ووفاة نوم لم يقل : ؛ فإنها من حين قبضت ماتت، وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك :" (٦).
القول الثاني : أن النَّفْسين المُمْسَكة والمرسَلة كلتيهما تُوفّيت وفاةَ النوم، فمن استكملت أجلها أمسكها عنده، ومن لم تستكتمله ردَّها إلى جسدها.
وهذا اختيار شيخ الإسلام - كما تقدم -، ووافقه الشوكاني(٧).
والأظهر – والله أعلم – القول الأول، لوروده عن السلف.
سورة الزمر : الآية ٦٧
قال تعالى :(٨).
رجح شيخ الإسلام تفسير هذه الآية بما يوافق ظاهرها، وإثبات صفة الله تعالى الواردة فيها على وجه يليق بجلاله وعظمته.
(١) تفسيره ١١/٩.
(٢) تفسيره ٢٦/٢٤٧.
(٣) تفسيره ٢/٢٧.
(٤) تفسيره ٧/٤١٤.
(٥) تفسيره ٢٣/٧.
(٦) الروح ص٢٩.
(٧) فتح القدير ٤/٦٥٤.
(٨) سورة الزمر : الآية ٦٧.

وسماه روحاً، لأن به تحيا القلوب كالروح يحيا بها الجسد(١).
ولا تنافي بين هذه الأقوال، والوحي يشملها، وهي أمثلة له.
القول الثاني : أنه يعود على القرآن ؛ وبه قال السدي(٢).
واختاره ابن جرير، وقال :" يقول : ولكن جعلنا هذا القرآن وهو الكتاب
يعني : ضياءً للناس يستضيئون بضوئه الذي بيّن الله فيه، وهو بيانه الذي بيَّن فيه مما لهم في العمل به الرشاد، ومن النار النجاة " (٣).
واختاره الواحدي(٤)، وابن عطية(٥)، وابن جزي(٦)، وابن كثير(٧)، والشنقيطي(٨)، وابن عاشور(٩).
القول الثالث : أنه يعود للإيمان ؛ وبه قال الضحاك(١٠).
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام، ومن وافقه ؛ لأن الأقوال الأخرى داخلة فيه، وإذا أمكن حمل الآية على جميع ما قيل فيها فهو أولى.
(١) تفسير السمعاني ٥/٨٨، وابن عطية ١٤/٢٣٧.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/٥٤٣ [ ط التركي ].
(٣) تفسيره ٢٠/٥٤٣ [ ط التركي ].
(٤) تفسيره الوسيط ٤/٦٢.
(٥) تفسيره ١٤/٢٣٨.
(٦) تفسيره ٢/٣٠٧.
(٧) تفسيره ٧/٢١٧ [ ط طيبة ].
(٨) تفسيره ٧/٢٠٢.
(٩) تفسيره ٢٥/٢٥٢.
(١٠) عزاه إليه الماوردي ٥/٢١٣.

وقال ابن كثير :" أي الأصنام والأوثان أي : لا يقدرون على الشفاعة لهم هذا استثناء منقطع، أي : لكنْ من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له " (١).
ويلاحظ أنه جعل المستثنى الشافع وليس المشفوع له ؛ كما هو قول مجاهد.
وقيل : إن مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاماً لكل ما يعبد من دون الله، ومدار الانقطاع على جعله خاصاً بالأصنام(٢).
وقيل المعنى : لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحدٌ إلا من شهد بالحق، فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك.
والراجح – والله تعالى أعلم – ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وأن الاستثناء في قوله تعالى : منقطع، والمعنى : أن الشفاعة لا يملكها أحد دون الله، ولكن من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة، منهم الشافع ومنهم المشفوع له.
مع العلم أن قوله ليس مطابقاً لقول مجاهد وابن كثير، فإنه ينفي ملك من يُدعى من دون الله للشفاعة مطلقاً، وإنما يعطي الله من يشاء منهم الإذن بالشفاعة، ثم يرى أن قوله تعالى : يتناول الشافع والمشفوع له، بخلاف مجاهد فإنه يرى أنها في المشفوع له، وابن كثير يرى أنها في الشافع.
(١) تفسير ابن كثير ٤/١٤٧.
(٢) تفسير أبي السعود ٨/٥٧، والشوكاني ٤/٨٠٧.

وقال ابن عاشور :" وقوله من شأنه أن يذيَّل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخياً، ألا ترى أن الذي يقال له : افعل كذا، فيقول : أفعل إن شاء الله، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال، أو في المستقبل القريب، بل يفعله بعد زمن، ولكن مع تحقيق أنه يفعله " (١).
القول الثاني : أنه استثناء من الله، وقد عَلمه، والخَلْق يستثنون فيما لا يعلمون ؛ قاله ثعلب، فعلى هذا يكون المعنى : أنه عَلم أنهم سيدخُلونه، ولكن استثنى على ما أُمر الخلق به من الاسثتناء(٢)، وقال بعضهم : خوطب العباد على ما يجب أن يقولوه، كما قال تعالى :(٣) (٤)، واختاره السمعاني(٥)، واستحسنه الزجاج(٦).
القول الثالث : أن المعنى : لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن أمركم الله به ؛ قاله الزجاج(٧).
وقد ضعَّف هذا القول شيخ الإسلام كما تقدم، وبيَّن أن علمه بأنه سيأمرهم بدخوله كعلمه بأنهم سيدخلوه.
القول الرابع : أن الاستثناء يعود إلى دخول بعضهم أو جميعهم، لأنه علم أن بعضهم يموت(٨).
وضعَّفه شيخ الإسلام كما تقدم، وبيَّن أن المعلَّق بالمشيئة دخولُ من أُريد باللفظ، وكان هذا وعداً مجزوماً به.
(١) تفسيره ٢٦/١٩٩.
(٢) انظر زاد المسير ٧/١٧٢.
(٣) سورة الكهف : الآيتان ٢٣ – ٢٤.
(٤) ذكره النحاس في معاني القرآن ٦/١٢، والواحدي في الوسيط ٤/١٤٥، وانظر : تفسير السمعاني ٥/٢٠٨، وابن الجوزي ٧/١٧٢، والرازي ٢٨/٩١.
(٥) تفسيره ٥/٢٨.
(٦) معاني القرآن وإعرابه ٥/٢٨.
(٧) معاني القرآن وإعرابه ٥/٢٨، وانظر : البغوي ٤/٢٠٥.
(٨) انظر : معاني القرآن للنحاس ٦/٥١٢، وتفسير الثعلبي ٩/٦٤، والزمخشري ٣/٤٦٨، وابن الجوزي ٧/١٧٢.

وروي عن مجاهد(١)، وسعيد بن جبير، وابن زيد(٢)، وبه قال البخاري(٣)، ومحمد بن نصر المروزي(٤) (٥)، وابن عبدالبر(٦) (٧)، وبه قال جمهور المفسرين، وممن اختاره الزجاج وقال :" والأشبه – والله أعلم – أن يكون في قوم من المنافقين " (٨)، والواحدي(٩)، والسمعاني(١٠)، والبغوي(١١)، والزمخشري(١٢)، وابن عطية(١٣)، وابن الجوزي(١٤)،
والرازي(١٥)، والقرطبي(١٦)، وأبوحيان(١٧)، والألوسي(١٨)، والشوكاني(١٩)، والشنقيطي(٢٠).
(١) أخرجه ابن جرير ١١/٤٠١، وقال عنه شيخ الإسلام :" منقطع "، الإيمان ص٢٢٦.
(٢) أخرجه ابن جرير ١١/٤٠١.
(٣) فتح الباري ١/١٠٨، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة.
(٤) هو أبو عبد الله، محمد بن نصر المروزي، إمام في الفقه والحديث، كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم في الأحكام، ولد ببغداد سنة ٢٠٢هـ، وتوفي بسمرقند سنة ٢٩٤هـ، من مؤلفاته : المسند، والقسامة. انظر : تاريخ بغداد ٣/٣١٥، وتهذيب التهذيب ٩/٤٨٩.
(٥) تعظيم قدر الصلاة ٢/٥٥٤.
(٦) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، أبو عمر، من كبار حفاظ الحديث، مؤرخ أديب بحاثة، حافظ المغرب، ولد بقرطبة سنة ٣٦٨هـ، وتوفي بشاطبة سنة ٤٦٣هـ، من مصنفاته : الاستيعاب في تراجم الصحابة، وجامع بيان العلم وفضله. انظر : وفيات الأعيان ٧/٦٦ ترجمة رقم (٨٣٧)، وسير أعلام النبلاء ١٨/١٥٣.
(٧) التمهيد ٩/٢٤٨.
(٨) معاني القرآن ٥/٣٩.
(٩) تفسيره ٤/١٦٠.
(١٠) تفسيره ٥/٢٣١.
(١١) تفسيره ٧/٣٤٨ [ ط طيبة ].
(١٢) الكشاف ٤/١٦.
(١٣) تفسيره ١٥/١٥٥.
(١٤) تفسيره ٧/١٨٧.
(١٥) تفسيره ٢٨/١٢٠.
(١٦) الجامع لأحكام القرآن ١٥/٢٢٧.
(١٧) تفسيره ٨/١٦٦.
(١٨) تفسيره ٢٦/١٦٧.
(١٩) تفسيره ٥/٩٦.
(٢٠) تفسيره ٧/٦٣٦.

والثاني أن تكون السكرة هي الموت، أضيفت إلى نفسها، كما قيل :(١)، ويكون تأويل الكلام : وجاءت السكرة الحق بالموت(٢).
وهناك وجه ثالث ذكره ابن عطية :" وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت، وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد(٣) منه بأمله" (٤).
والباء في قوله تعالى : للتعدية، والمعنى : وأحضرت سكرةُ الموت حقيقة الأمر الذي ذكره الله في كتبه، وبعث به رسله، من سعادة الميت وشقاوته، أو الحق الذي خُلق له الإنسان، من أن كل نفس ذائقة الموت.
ويجوز أن تكون للملابسة، والمعنى جاءت ملتبسة بالحق، أي : بحقيقة الأمر، والحكمة والغرض الصحيح، مثلها مثل قوله تعالى :(٥).
ويجوز أن تكون بمعنى ( مع ) أي جاءت ومعها الموت(٦).
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وأن المراد بالحق ما بعد الموت من أمر الآخرة وما فيها من ثواب أو عقاب، وذلك لما ذكره شيخ الإسلام من أن حقيقة الموت لم يخالف فيها أحد، وإنما الذي وقع فيه النِّزاع بين الرسل وأهل الشرك هو البعث بعد الموت.
ومما يؤيد ذلك أن موضوع السورة الأساس وجلَّ آياتها تتحدث عن البعث بعد الموت وما بعده، والسورة مكية تخاطب كفار قريش المنكرين للبعث.
سورة ق : الآية ٣٠
قال تعالى :(٧).
اختار شيخ الإسلام أن معنى قوله تعالى : هل من زيادة تزاد فيَّ.
(١) سورة الواقعة : الآية ٩٥.
(٢) تفسير ابن جرير ١١/٤١٨، وهو مأخوذ من الفراء ٢/٧٨.
(٣) تحيد : تفرُّ وتهرب، تفسير ابن جرير ١١/٤١٨، والحيد : الميل، انظر : الكشاف ٤/٣٨٦.
(٤) تفسير ابن عطية ٥/١٦١.
(٥) سورة المؤمنون : الآية ٢٠.
(٦) ذكر ذلك الزمخشري ٤/٣٨٥، وانظر : تفسير الرازي ٢١/١٤٦، وتفسير البيضاوي ٢/٤٢٢، وتفسير أبي حيان ٨/١٢٣، والدر المصون ١٠/٢٥، وتفسير الألوسي ٢٦/١٨٢.
(٧) سورة ق : الآية ٣٠.

وبيّن أن هذا المعنى صحيح في نفسه، لكن لا يصلح تفسيراً للآية ؛ لأن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره وحكمه، ثم إن العبادة وردت في مواضع كثيرة من القرآن كلها يقصد بها العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى :
(١)، فكيف يقال : إن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جارياً عليهم ؟
ثم أجاب عما ورد عن زيد بن أسلم ووهب بن منبه بأن مرادهم الرد على المكذبين بالقدر، القائلين بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهؤلاء حقيقة قولهم أنه لا يقدر على تعبيدهم وتصريفهم تحت مشيئته فأرادوا إبطال قول هؤلاء.
ثم ذكر القول الثالث في تفسير الآية وهو أن المعنى : إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى، متذلل لمشيئته، فالمراد إلا ليقرُّوا بالعبودية طوعاً وكرهاً، كما روي عن ابن عباس.
وأجاب عنه بأن الإقرار بأن الله هو خالقهم أمر فطري، لا يبذل كرهاً بل طوعاً، بخلاف الإسلام والخضوع له فإنه يكون كرهاً.
ثم ذكر القول الرابع وهو ما روي عن السدي أنه قال : خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع، (٢)، هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم، قال الشيخ :" وهذا المعنى صحيح لكن المشرك يعبد الشيطان وما عدل به الله لا يعبد، ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانغ عبادة لله مع الشرك بالله ".
ثم ذكر القول الخامس وهو ما روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج : إلا ليعرفون، وأجاب عنه بأن ما حصل لهم من المعرفة ليس هو الغاية التي خلقوا لها، ثم إن هذا الإقرار العام هم – أي المشركون – مشركون فيه.
(١) سورة النساء : الآية ٣٦.
(٢) سورة لقمان : الآية ٢٥.

والراجح – والله أعلم – القول الأول، وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين ؛ لدلالة السياق عليه كما ذكره الرازي، وهو أظهر في الدلالة عليه من الدلالة على القول الثالث الذي اختاره ابن جرير.
أما ما اختاره شيخ الإسلام من أن القولين متلازمان فهو صحيح ولا مرية فيه ؛ فإنه لا يتم الإيمان بالقرآن إلا بالإيمان بمن أنزل عليه، وهو الرسول - ﷺ -، ولا يتم الإيمان بالرسول إلا بالإيمان بما جاء به وهو القرآن، ولكن المراد بالنذير في الآية الرسول محمد - ﷺ -، ولعل الشيخ اختار الجمع بين القولين ؛ لأنه تحدث عن الآية في معرض حديثه عن الأنبياء وما بعثوا به من الآيات.
الوجه الرابع : وهو قوله : والمكنون المصون المستور عن الأعين الذي لا تناله أيدي البشر، كما قال تعالى :(١)، وهكذا قال السلف، قال الكلبي : مكنون من الشياطين. وقال مقاتل : مستور. وقال مجاهد : لا يصيبه تراب ولا غبار. وقال أبو إسحاق : مصون في السماء. يوضحه :
الوجه الخامس : أن وصفه بكونه مكنوناً نظير وصفه بكونه محفوظاً فقوله : كقوله :(٢) يوضحه :
الوجه السادس : أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين، وأبلغ في تعظيم القرآن من كون المصحف لا يمسه محدث.
الوجه السابع : قوله : بالرفع فهذا خبر لفظاً ومعنى، ولو كان نهياً لكان مفتوحا، ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.
الوجه الثامن : أنه قال : ولم يقل : إلا المتطهرون، ولو أراد به منع المحدث من مسه لقال : إلا المتطهرون كما قال تعالى :(٣)، وفي الحديث :" اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " (٤)، فالمتطهر فاعل التطهير والمطهَّر : الذي طهره غيره، فالمتوضئ متطهر والملائكة مطهرون " (٥).
(١) سورة الصافات : الآية ٤٩.
(٢) سورة البروج : الآيتان ٢١ – ٢٢.
(٣) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.
(٤) أخرجه الترمذي ١/٧٧ ح٥٥، في أبواب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال :" هذا حديث في إسناده اضطراب "، وأصل الحديث في مسلم، والخلاف في ثبوت هذه الزيادة :" اللهم... "، قال ابن حجر في نتائج الأفكار ١/٢٤٤ :" لم تثبت هذه الزيادة في هذا الحديث ".
(٥) التبيان ص١٤٠ – ١٤٣.

القول الثاني : أن الله تعالى أنزل مع آدم ثلاثة أشياء : السَّندان(١)، والكَلْبَتَان(٢)، والمْيقعة(٣)، والمطرقة، قاله ابن عباس – رضى الله عنهما -(٤).
وقد تقدم إبطال شيخ الإسلام لهذا الأثر سنداً ومتناً، وعن عكرمة أنه قال عن هذه الآية :" إن أول ما أنزل الله من الحديد الكلبتين، والذي يُضرب عليه الحديد " (٥).
هذا ويرى أصحاب الإعجاز العلمي المعاصرون، أن إنزال الحديد المذكور في هذه الآية إنزال حقيقي، وأن الدراسات الحديثة أثبتت أن عنصر الحديد أصله سماوي(٦).
القول الثالث : أن المعنى : وأنزلنا الحديد من الجبال التي خلق منها، وهذا هو رأي شيخ الإسلام كما تقدم.
ويناقش بأن الحديد ليس موجوداً في الجبال فحسب، بل يستخرج من باطن الأرض.
القول الرابع : أن ( أنزلنا ) هنا من النُزل، كما تقول : أُنزل الأمر على فلان نزلاً حسناً، فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نُزلاً لهم، ومثل قوله : ، وهذا قول قطرب(٧).
(١) السَّندان : ما يَطْرقُ الحداد عليه الحديد. انظر : المعجم الوسيط ١/٤٥٤، مادة ( سند ).
(٢) الكلبتان : أداة تكون مع الحداد يأخذ بها الحديد المحمي. انظر : المعجم الوسيط ٢/٧٩٤، مادة ( كلب ).
(٣) الميقعة : المطرقة. انظر : المعجم الوسيط ٢/١٠٥٠ مادة ( وقع ).
(٤) أخرجه ابن جرير ١١/٦٨٩، وانظر : ط التركي ٢٢/٤٢٥، ويلاحظ أنه عدّ أربعة، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره ٤/٣٣٧ بلفظ :".. والميقعة "، وهي المطرقة، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم، وذكره السيوطي في الدر المنثور ١/١١٣، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم بلفظ :" السندان، والكلبتان، والمطرقة ".
(٥) ذكره السيوطي في الدر ٦/٢٥٨، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(٦) وممن قال ذلك الدكتور زغلول النجار، انظر : جريدة الوطن السعودية، العدد (١٤٠٤)، الثلاثاء ١٧/٦/١٤٢٥هـ.
(٧) ذكره الثعلبي ٩/٢٤٦.

قال ابن عباس : هذا يوم كَرْبٍ وشدة " (١).
واستدل أصحاب هذا القول باللُغة، وقالوا : إن العرب تعبر بذلك عن الأمر الشديد، قال ابن عطية :" والكشف عن ساق : مثلٌ لشدة الحال، وصعوبة الخطب والهول، وأصله أن المرء إذا هَلِع أن يسرع في المشي ويشمِّر ثيابه فيكشف عن ساقه، كما يقال : شمَّر عن ساعد الجدِّ، وأيضاً كانوا في الرَّوع والهزيمة يُشمِّر الحرائر عن سُوقهن في الهرب أو العمل، فتنكشف سوقُهن بحيث يُشْغِلُهنَّ هولُ الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا يبدينه عادة، فيقال : كشفت عن ساقها، أو شمرت عن ساقها، أو أبدت عن ساقها " (٢).
ولهذا الاستعمال شواهدُ كثيرةٌ من الشعر، منها :
كشفتْ عن ساقها... وبدا من الشر البواح(٣)
وقول الآخر :
في سنةٍ قد كشفتْ عن ساقها... حمراءَ تَبْرى اللحم عن عُراقها(٤)
(١) أخرجه ابن جرير ١٢/١٩٧، والحاكم ٢/٤٩٩، وهذا لفظه، وقال :" صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس من طرق متعددة، انظر : تفسير ابن جرير ٢/٤٩٧ - ٤٩٨، والدر المنثور : ٦/٣٩٧ - ٣٩٨، وقد ضعف هذا الأثر ابن تيمية - كما تقدم - وجميع الأسانيد التي روي بها هذا الأثر ضعيفة ضعفاً لا ينجبر، انظر : المنهل الرقراق ص١٧ - ٣١، وحسنه الحافظ بن حجر في الفتح ١٣/٤٢٨، ولم أعرف قائل هذا البيت، وهو في البحر ٨/٣١٠، بلفظ " صبراً أُمام ".
(٢) تفسير ابن عطية ١٩/٩٧، وانظر : تأويل مشكل القرآن ص١٣٧.
(٣) قائل هذا البيت جدُّ طرفة بن العبد سعد بن مالك. انظر : اللسان ٤/٢١٥٥، مادة (سوق)، وانظر : البحر ٨/٣٠٩، والدر المصون ١٠/٤١٧.
(٤) لم أعرف قائله، والعُراق : العظم بغير لحم. انظر : اللسان ٥/٢٩٠٦ مادة ( عَرَقَ )، وانظر : البحر المحيط ٨/٣٠٩، والدر المصون ١٠/٤١٧.

شر نفسي " (١)، ولو كان الإلهام بمعنى البيان الظاهر لكان حاصلاً للمسلم والكافر " (٢).
وقال - رحمه الله - عند هذه الآية أيضاً :" على قول الأكثرين، وهو أن المراد أنه ألهم الفاجرة فجورها، والتقية تقواها، فالإلهام عنده هو البيان بالأدلة السمعية والعقلية. وأهل السنة يقولون : كلا النوعين من الله هذا الهدى المشترك وذاك الهدى المختص وإن كان قد سماه إلهاماً كما سماه هدىً كما في قوله :(٣)، وكذلك قد قيل في قوله :(٤)، أي بينا له طريق الخير والشر وهو هدى البيان العام المشترك، وقيل : هدينا المؤمن لطريق الخير والكافر لطريق الشر ; فعلى هذا يكون قد جعل الفجور هدى كما جعل أولئك البيان إلهاماً... " (٥).
الدراسة :
تعريف الإلهام : قال الراغب :" الإلهام : إلقاء الشيء في الرُّوع(٦)، ويختص بما كان من جهة الله تعالى، وجهة الملأ الأعلى، قال تعالى :" (٧).
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين :
(١) أخرجه الترمذي ٥/٤٨٥ ح٣٤٨٣، كتاب الدعوات، باب ٧٠، وقال :" هذا حديث غريب "، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي ص٤٥٢.
(٢) مجموع الفتاوى ١٦/١٤٥.
(٣) سورة فصلت : الآية ١٧.
(٤) سورة البلد : الآية ١٠.
(٥) مجموع الفتاوى ١٥/٩٨.
(٦) الرُّوع : القلب، والعقل. انظر : مختار الصحاح ص٢١، مادة (رَوَعَ).
(٧) المفردات ص٧٤٨.

والثاني : أنه خطاب للرسول وهذا أظهر، فإن الإنسان إنما ذكر مخبراً عنه لم يخاطب، والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن والخطاب في هذه السور له كقوله :(١)، وقوله :(٢)، وقوله :(٣)، والإنسان إذا خوطب قيل له :(٤)، (٥)، وأيضاً فبتقدير أن يكون خطابا للإنسان يجب أن يكون خطابا للجنس كقوله : وعلى قول هؤلاء إنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين، وأيضا فإن قوله : أي : يجعلك كاذبا هذا هو المعروف من لغة العرب ؛ فإن استعمال ( كذب غيره أي نسبه إلى الكذب وجعله كاذباً ) مشهور، والقرآن مملوء من هذا، وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل أو التكذيب بالحق، ونحو ذلك فهذا مراده، لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال : ، فذكر المكذب بالدين - فذكر المكذب والمكذب به جميعا. وهذا قليل - جاء نظيره في قوله :(٦)، فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما إما المكذب ؛ كقوله :
(٧)، وإما المكذب به ؛ كقوله :(٨)، وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل، ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للإنسان وفسر معنى قوله :: فما يجعلك مكذِّباً. وعبارة آخرين : فما يجعلك كذاباً. قال ابن عطية : وقال جمهور من المفسرين : المخاطب الإنسان الكافر أي ما الذي يجعلك كذاباً بالدين تجعل لله أنداداً وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل ؟.
(١) سورة الضحى : الآية ٣.
(٢) سورة الشرح : الآية ١.
(٣) سورة العلق : الآية ١.
(٤) سورة الانفطار : الآية ٦.
(٥) سورة الانشقاق : الآية ٦.
(٦) سورة الفرقان : الآية ١٩.
(٧) سورة الشعراء : الآية ١٠٥.
(٨) سورة الفرقان : الآية ١١.

قال الزجاج :" أي : ما تفرقوا في ملكهم وكفرهم بالنبي - عليه السلام - إلا من بعد أن تبيَّنوا أنه الذي وُعدوا به في التوراة والإنجيل " (١).
واختاره الثعلبي(٢)، وابن كثير(٣)، والبغوي، وقال :" أي البيان في كتبهم أنه نبي مرسل، قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد - ﷺ - حتى بعثه الله، فلما بُعث تفرقوا في أمره واختلفوا، فآمن به بعضهم وكفر آخرون " (٤).
القول الرابع : أن المراد بالبينة مطلق الرسل، أي : حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلو عليهم صحفاً مطهرة، وهو كقوله تعالى :(٥)، وكقوله :
(٦) " (٧)، وفيه بُعد.
القول الخامس : أن المراد بالبينة مجيء عيسى - عليه السلام - فقد وعدهم به أنبياؤهم، فلما جاءهم كذبوه فلا يُطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى، وهم قد كذبوا ببينته، فتبين أن الجحود والعناد صفة لازمة لهم، والمراد بالتفرق : تفرق بني إسرائيل ما بين مكذِّب لعيسى ومؤمن به، وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود ؛ وهذا قول ابن عاشور، وضعَّفَ الأقوال الأخرى بقوله :" وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى : أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام، أي ما تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد - ﷺ -، وهذا تأويل للفظ التفرق، وهو صرف عن ظاهره بعيد، فأشكل وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد بالبينة الثانية عين الأولى، وهي بينة محمد - ﷺ - " (٨).
(١) معاني القرآن وإعرابه ٥/٣٥٠.
(٢) تفسيره ١٠/٢٦١.
(٣) تفسير ابن كثير ٤/٥٧٤.
(٤) تفسيره ٤/٥١٣.
(٥) سورة النساء : الآية ١٥٣.
(٦) سورة المدثر : الآية ٥٢.
(٧) تفسير الرازي ٣٢/٤٠.
(٨) تفسيره ٣٠/٤٧٩.

عنهما – قال :" إن قريشاً وعدوا رسول الله - ﷺ - أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له : هذا لك عندنا يا محمد، وكفَّ عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح. قال :" ما هي ؟ "، قالوا : تعبد آلهتنا سنة اللات والعزي ونعبد إلهك سنة. قال :" حتى أنظر ما يأتي من عند ربي "، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ السورة، وأنزل الله : إلى قوله :(١) " (٢).
واختاره الزجاج(٣)، والنحاس(٤)، والثعلبي(٥)، والواحدي(٦)، والسمعاني(٧)، والبغوي(٨)، وابن عطية(٩).
القول الثالث : أن قوله تعالى :
في الحال، وقوله تعالى : في الاستقبال، وقد ذكره شيخ الإسلام عن المهدوي كما تقدم، وذكره القرطبي، ونسبه
للأخفش والمبرد(١٠) (١١).
(١) سورة الزمر : الآيات ٦٤ – ٦٦.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٢/٧٢٨، وذكر أثراً أخرجه عن سعيد بن مينا، مولى البَخْتري نحوه.
(٣) معاني القرآن وإعرابه ٥/٣٧١.
(٤) إعراب القرآن ٥/٣٠١.
(٥) تفسيره ١٠/٣١٥.
(٦) الوسيط ٤/٥٦٥ ونسبه لابن عباس ومقاتل.
(٧) تفسيره ٦/٢٩٤.
(٨) تفسيره ٤/٥٣٥.
(٩) تفسيره ١٦/٣٧٤.
(١٠) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمامي الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرَّد - بفتح الراء أو بكسرها - إمام العربية ببغداد في زمانه، ولد بالبصرة سنة ٢١٠هـ، وتوفي ببغداد سنة ٢٨٦هـ، من كتبه : المقتضب، والكامل. انظر : تاريخ بغداد ٣/٣٨٠، ولسان الميزان ٥/٤٣٠.
(١١) تفسيره ٢٠/١٥٥، وليس في معاني الأخفش، وانظر : الألوسي ٣٠/٢٥١.

عصاه والله سفيهُ الجن، كما عصاه سفيه الإنس... قتادة
على الله البيان ؛ بيانُ حلاله وحرامه... قتادة
علمت أن المتقي ذونَهْيَة... أبو وائل
علمها الطاعة والمعصية... ابن عباس
علينا بينان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته... قتادة
عن ساقيه جلّ ذكره... عبد الله بن مسعود
عن نور عظيم يخرون له سجداً... أبو موسى الأشعري
عيسى، وعزير، والملائكة... مجاهد
فإذا فرغت مما فرض عليك من الصلاة فسل الله... ابن عباس
الفلق : كل ما انفلق عن شيء... الحسن
فما الذي يجعلك مكذباً بالجزاء... مقاتل
فما يكذبك أيها الإنسان بعد بيان الصورة الحسنة... مقاتل
فالمعروف كل معروف أمرهن به... ابن زيد
فيما أحسب أن النبي - ﷺ - كان بمكة... ابن عباس
قد أفلح من زكى نفسه وأصلحها... الحسن
قلَّ ليلة أتت عليهم هجعوها... مطرف بن الشخير
قولوا : لا إله إلا الله... عكرمة
كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى... عكرمة
كانت العرب تسمي الرجل إذا نكث... قتادة
كانت العرب تقول : الغاسق : سقوط الثريا... ابن زيد
كانت وِرَاثَتُه علماً... مجاهد
كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله... قتادة
كانوا قلَّ ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها... ابن عباس
كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون... ابن السائب
كذبت ليس بوجه الله سألتني إنما وجه الله الحق... علي بن أبي طالب
كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش... الضحاك
كل ما انفلق عن جميع ما خَلق من الحيوان... الحسن... ، ٧٠٥
كُنَّ نساءً معلوماتٍ... عبد الله بن عمرو
كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم... رافع بن خديج
كنتم أمواتاً قبل أن يخلقكم فهذه ميتة... ابن عباس
لا أحدَ أنصبُ ولا أشدُّ من أهل النار... أبو زيد
لا تقاتل إلا من قاتلك، ولم يعطك الجزية... مجاهد... ٢١٣
لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا..... سعد بن أبي وقاص... ٨٣
لا يؤمنون بالزكاة ولا يقرون بها... الحسن
لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعة... الضحاك
لا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر... مجاهد
لا يخدشن وجهاً ولا يشققن جيباً... زيد بن أسلم


الصفحة التالية
Icon