قال تلميذه ابن عبد الهادي :" ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل ما جمع، ولا صنَّف نحو ما صنَّف، ولا قريباً من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنَّفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب " (١).
وكان – رحمه الله – سريع الكتابة، حاضر البديهة، سريع الاستحضار للنصوص.
يقول أخوه عبد الله(٢) :" وقد منَّ الله عليه بسرعة الكتابة ويكتب من حفظه من غير نقل" (٣).
ونظراً لكثرة مؤلفاته، وضياع بعضها، وتفرَّقها بين تلاميذه في عدد من الأمصار، وإخفاء بعض أتباعه لها خوفاً على أنفسهم، تعذر إحصاؤها، وجمعها، واختلف الناس في تعدادها(٤).
قال تلميذه الحافظ عمر البزَّار :" وأما مؤلفاته، ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحد، لأنها كثيرة جداً، كباراً وصغاراً، وهي منثورة في البلدان، فقلَّ بلد نزلتُه إلا ورأيتُ فيه من تصانيفه " (٥).
وقال تلميذه الحافظ الذهبي :" جمعت مصنفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية – رضي الله عنه – فوجدته ألف مُصنَّف، ثم رأيت له أيضاً مصنفاتٍ أُخر" (٦).
(٢) هو عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام، ولد سنة ٦٦٠هـ، تفقه ودرَّس، ولم يشتغل بالتصنيف،
كان الشيخ يكرمه ويعظمه، توفي سنة ٧٢٧هـ. انظر : الدرر الكامنة ٢/٣٧١، وشذرات الذهب
٦/٧٦.
(٣) العقود الدرية ص٧٢.
(٤) انظر : العقود الدرية ص٧٣.
(٥) الأعلام العلية ص٢٥.
(٦) الرد الوافر ص٧٢.
ومن ذلك ما رُوي عن سعيد بن جبير أنه قال :" لما نزلت هذه الآية (١) قرأها رسول الله - ﷺ -، فقال : تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لتُرتجى، فسجد رسول الله - ﷺ - (٢)، فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله : إلى قوله :(٣) " (٤).
(٢) أي : في نهايتها. وسجود المشركين عند سماع سورة النجم من النبي - ﷺ - وسجوده فيها ثابت في صحيح البخاري ٨/٧٨١، ح٤٨٦٢، كتاب التفسير، باب وليس فيه ذكر لهذه القصة، وقد ذكر العلماء لسجودهم هذا أسباباً، منها : أنهم سجدوا لدهشة أصابتهم، وخوف اعتراهم عند سماع السورة. انظر : الفتح ٨/٧٨١، وتفسير الألوسي ١٧/١٨٣.
(٣) سورة الحج : الآيات ٥٢ – ٥٥.
(٤) أخرجه ابن جرير ٩/١٧٦، وعزاه في الدر ٤/٦٦١ لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه مرسلاً، وروي موصولاً عن ابن عباس، ذكره السيوطي في الدر ٤/٦٦١، وعزاه للبزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة، وقد ضعّفه البزار كما في كشف الأستار ٣/٧٢ح٢٢٦٣، والزيلعي في تخريج الكشاف٢/٣٩٢، والألباني في نصب المجانيق ص١٢.
القول الثالث : أن المراد بالحسنة كل طاعة(١).
القول الرابع : أن المراد بالحسنة الإيمان، واختاره ابن عطية(٢)، والرازي(٣)، وأبو حيان(٤).
القول الخامس : أن المراد بالحسنة كل طاعة وأفضلها قول لا إله إلا الله لمن حقق شروطها، ولقي الله - تعالى - وقد رجحت سيئاتُه على حسناته وهو اختيار شيخ الإسلام كما تقدم، واختاره الشوكاني(٥)، والسعدي حيث قال :" الحسنة : اسم جنس يشمل كل حسنة قولية أو فعلية أو قلبية " (٦)، وابن عاشور ؛ حيث قال :" والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي، أي : من تمخضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله :... " (٧)، وهو ظاهر اختيار ابن جرير ؛ حيث قال :" توحيد الله، والإيمان به، وقول لا إله إلا الله موقناً به قلبه " (٨)، وبنحوه قال السمرقندي(٩)، ولعل من قال بالأقوال الثلاثة قبله يريد هذا المعنى، ويستدل لهذا القول بما يلي :
١ - أن جميع أعمال البر داخلة في التوحيد، فإن التوحيد هو معنى لا إله إلا الله، وهو أن يعبد الله بما أمر به ؛ فمن قال الحسنة :( لا إله إلا الله ) لم يرد أن هذه الكلمة وحدها هي الحسنة دون العمل بمقتضاها(١٠).
٢ - أن الألف واللام في الآية للجنس أي من جاء بجنس الحسنة ؛ فلا وجه للتخصيص(١١).
٣ - سياق الآية ؛ حيث قال تعالى : فهذا الوعد لا يتحقق إلا لمن قام بالواجب ورجحت حسناته على سيئاته(١٢).
(٢) تفسيره ١٢/١٣٧.
(٣) تفسيره ٢٤/١٩٠.
(٤) تفسيره ٧/٩٥
(٥) تفسيره ٤/٢١٩.
(٦) تفسير السعدي ص٦١٠.
(٧) تفسير ابن عاشور٢٠/٥٢.
(٨) تفسيره ١٠/٢١.
(٩) تفسيره ٢/٥٠٦.
(١٠) تفسير آيات أشكلت ١/٣٧٤، بتصرف.
(١١) تفسير الشوكاني ٤/٢١٩، وابن عاشور ٢٠/٥٢، والسعدي ص٦١٠.
(١٢) تفسير آيات أشكلت ١/٣٦٣.
القول الخامس : أن المعنى : إلا ليوحدون ؛ فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء(١).
وقد روي عن السدي أنه قال :" من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع، هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك " (٢).
قال الألوسي :" ولا يخفى بُعد ذلك عن الظاهر والسياق " (٣).
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وهو قول جمهور المفسرين لقوة أدلته، وضعف الأقوال الأخرى، ومخالفتها لظاهر الآية والسياق.
(٢) ذكره عنه ابن كثير ٤/٢٥٥.
(٣) تفسيره ٢٧/٢١.
القول الثالث : أن الاستثناء راجع إلى قوله تعالى : ، والمعنى : ما كتبناها عليهم بعد دخولهم فيها تطوُّعاً إلا ابتغاء رضوان الله(١) ؛ وعلى هذا فالاستثناء متصل(٢).
قال الزجاج :" لما ألزموا انفسهم ذلك التَّطوع ودخلوا فيه لزمهم تمامُه، كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوماً لم يُفترض عليه لزمه أن يتمه " (٣).
وقد ردَّ هذا القول شيخ الإسلام كما تقدم، وبيَّن أن الله تعالى لا يفعل شيئاً ابتغاء رضوان نفسه.
القول الرابع : أن الاستثناء يرجع إلى قوله : ، والمعنى : ما أمرناهم منها إلا بما يرضي الله - عز وجل -، لا غير ذلك ؛ قاله ابن قتيبة(٤).
والراجح – والله أعلم – القول الأول وهو أن المعنى : ما كتبنا عليهم هذه الرهبانية ولكنهم ابتدعوها طلباً لرضوان الله، لأنه ظاهر الآية، وقول جمهور المفسرين.
سورة الحديد : الآية ٢٨
قال تعالى :
رجح شيخ الإسلام أن الخطاب في هذه الآية للمؤمنين من هذه الأمة، وقد سبق ذكر كلامه عند قوله تعالى :(٥).
الدراسة :
اختلف المفسرون في الخطاب المذكور فيها على قولين :
القول الأول : أن الخطاب المذكور في الآية لمؤمني هذه الأمة، ويروى عن ابن عباس
(٢) انظر : تفسير الرازي ٢٩/٢١٤.
(٣) معاني القرآن وإعرابه ٥/١٣٠، وانظر : الكشاف ٤/٦٩، ومدارج السالكين ٢/٦٣.
(٤) غريب القرآن ص ٤٥٤، وزاد المسير ٧/٣١٢.
(٥) انظر ص ٤٥٦.
قال ابن كثير عند هذه الآية :" يقول الله - تعالى - : فاصبر يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم فإن الله سيحكم لك عليهم، ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة " (١).
القول الثالث : أن المعنى فاصبر لنصر ربك.
قال الزمخشري :" وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم " (٢).
وقال أبو حيان :" وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، وامضِ لما أُمرت به من التبليغ واحتمال الأذى " (٣).
والراجح - والله تعالى أعلم - القول الأول ؛ لأنه ظاهر الآية، ولأنه مستلزم للقول الثاني.
المسألة الثانية : هل الآية منسوخة ؟.
اختلف المفسرون في ذلك على قولين :
القول الأول : ذهب عامة المفسرين إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، لعدم وجود دليل على نسخها ؛ ولأنها لا تعارض نصوصاً أخرى.
القول الثاني : أنها من جملة ما نسخ بآية السيف، وهي قوله تعالى :... الآية(٤).
واختاره بعض العلماء، وممن اختاره ابن العربي قال :" نسختها آية القتال " (٥)، وابن جزي وقال :" يقتضي مسالمة الكفار، نسخت بالسيف " (٦).
والراجح - والله تعالى أعلم - ما ذهب إليه عامة المفسرين من أن الآية محكمة غير منسوخة.
(٢) الكشاف ٤/١٣١.
(٣) البحر المحيط ٨/٣١٠.
(٤) سورة التوبة : الآية ٥.
(٥) الناسخ والمنسوخ ٢/٣٩٩.
(٦) تفسيره ٢/٤٧٦.
فإذا قيل : قد أفلح الشخص الذي زكاها كان ضمير الشخص في يعود على هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال : قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه، وأما إذا كان المعنى : قد أفلح من زكاه الله لم يبق في الجملة ضمير يعود على فإن الضمير على هذا يعود على الله وليس هو وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على لا ضمير الفاعل ولا المفعول، فتخلو الصلة من عائد وهذا لا يجوز، نعم لو قيل : قد أفلح من زكى الله نفسه أو من زكاها الله له ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب، وهو لم يقل : قد أفلحت نفس زكاها، فإنه هنا كانت تكون صفة لنفس لا صلة ; بل قال : فالجملة صلة لـ لا صفة لها، ولا قال أيضاً : قد أفلحت النفس التي زكاها ; فإنه لو قيل ذلك وجعل في ضمير يعود على اسم الله صح، فإذا تكلفوا وقالوا : التقدير هي النفس التي زكاها، وقالوا : في زكى ضمير المفعول يعود على وهي تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث وتأنيثها غير حقيقي ولهذا قيل : ولم يقل قد أفلحت قيل لهم : هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة ؛ فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن(١) على أن المراد لنا، وكذا قوله :(٢)،
(٢) سورة يونس : الآية ٤٢..
القول الثاني : أن المراد بها الأصنام ؛ لأن ( ما ) تستعمل لما لا يعقل، ولو أراد المعبودات التي تعلم أو تعقل كالملائكة والأنبياء والجن والإنس لجاء بـ( مَنْ )(١).
وقد ضعَّف هذا القول شيخ الإسلام وأجاب عنه كما تقدم.
القول الثالث : أن مصدرية، أي : لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي(٢).
والأظهر – والله أعلم – القول الأول ؛ لأنه ظاهر الآية، وأما القول الثاني فهو مردود كما تقدم، والقول الثالث خلاف الظاهر.
سورة الكافرون : الآية ٦
قال تعالى :.
في هذه الآية مسألتان :
المسألة الأولى : رجح شيخ الإسلام ما ذهب إليه عامةُ المفسرين من أن هذه الآية محكمة غير منسوخة.
قال – رحمه الله – :" وقد قال طائفة من المفسرين إن هذه السورة منسوخة أي فيما ظنوها دلت عليه من ترك القتال ؛ فإنهم ظنوا أن قوله : تضمن ترك القتال، ومعلوم أن الله لم يأمر نبيه بمكة بالقتال، بل إنما أمره بالقتال بالمدينة، وأول آية نزلت في القتال قوله :(٣)، فأذن الله لهم أولاً فيه، ثم كتب عليهم ثانياً فقال :(٤)... "، ثم قال :" فلهذا يوجد كثير من المفسرين يقول في آيات يظن معناها النهي عن القتال : إنها منسوخة بآية السيف، فالذين قالوا : منسوخة هذا مأخذهم، والصواب أن هذه الآية لم تتعرض للقتال لا بأمر ولا بنهي، بل مضمونها البراءة من دين الكفار، وهذا أمر مُحكم لا يُنسخ أبداً " (٥).
الدراسة :
اختلف المفسرون في هذه الآية، هل هي محكمة أم منسوخة على قولين :
القول الأول : ذهب عامة المفسرين إلى أنها محكمة غير منسوخة، لعدم الدليل على نسخها، والأصل الإحكام.
(٢) انظر : تفسير الزمخشري ٤/٢٣٨، والرازي ٣٢/١٣٦، والدر المصون ١١/١٣١.
(٣) سورة الحج : الآية ٣٩.
(٤) سورة البقرة : الآية ٢١٦.
(٥) الصفدية ص٥٦٠ – ٥٦٤.
أبو العالية = رفيع بن مهران الرياحي
عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري... ١٥٦
عامر بن عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي... ٢٠٠
ابن عامر = عبد الله بن عامر اليحصبي
عبد الحق بن غالب... ٨٠
عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني... ١٦
عبد الرحمن بن سابط الجمحي... ٢٧٢
عبد الرحمن بن سليمان بن سعد بن سلمان البغدادي الحراني الحنبلي... ١٦
عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي الحنبلي... ١٧
عبد الرحمن بن محمد بن يَحْمَد الأوزاعي... ٢٩٠
أبو عبد الرحمن الحبلي = عبد الله بن يزيد
أبو عبد الرحمن السلمي = محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري... ١٣٨
عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البغدادي... ٤٨٦
عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي... ٤٤١
عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي... ١٨٣
عبد الله بن الزبعري السهمي القرشي... ١٤٥
عبد الله بن زيد بن عمرو الجَرْمي أبو قلابة... ٥٤١
عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي الشامي... ٩٧
عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية... ١٩
عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي... ١١١
عبد الله بن القاسم... ٣٢٤
عبد الله بن الكواء اليشكري... ٨٤
عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني... ١٦٣
عبد الله بن محمد بن عطاء الأذرعي الحنفي... ١٦
عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدَّيْنَوَري... ٢٣٦
عبد الله بن أبي نجيح يسار... ٤٨٧
عبد الله بن يزيد الحبلي... ٧٠٨
عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري... ٤٧٣
أبو عبد الله بن رشيق المغربي... ٢٩
عبد الملك بن حبيب البصري الجوني... ٤٨٨
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج... ٧٩
ابن عبد الهادي = محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي
ابن أبي عبلة = إبراهيم العقيلي الشامي المقدسي
عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري... ٤٨٦