ويقول ابن كثير :" واتَّفق وفاته في سحر ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان عشرين وسبعمائة، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة، من كل مكان أمكنهم المجيء منه، ولم يطبخ أهلُ الأسواق شيئاً، ولا فتحوا كثيراً من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة، وفُتح باب القلعة، وباب القاعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من البلد والصالحية، وجلسوا حوله وهم يبكون ويثنون، وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي – رحمه الله -، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه، وعلى رأسه عمامة بعذبة(١)مغروزة، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه.
ثم شرعوا في غسل الشيخ – وخرجت إلى مسجد هناك – ولم يمكث عنده إلا من ساعد في تغسيله، وفيهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين، فما فُرغ منه حتى امتلأت القلعة بالرجال، وكذلك ما حولها إلى الجامع، فصُلي عليه بدركات القلعة، وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع، ودخلوا بالجنازة الجامع الأموي، والخلائق فيه لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ : هكذا تكون جنائز أئمة المسلمين. فتباكى الناس عند سماع ذلك الصارخ.
هذا توهينه من طريق النقل، فأمّا من جهة المعنى فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته - ﷺ - ونزاهته، عن مثل هذه الرذيلة، إمّا من تمنِّيه أن يُنَزَل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو أن يتسوّر عليه الشيطان، ويشبِّه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي - ﷺ - أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبّهه جبريل - عليه السلام -، وذلك كله ممتنع في حقه - ﷺ -، أو يقول ذلك النبي - ﷺ - من قبل نفسه عمداً، وذلك كفر أو سهواً وهو معصوم من هذا كله.
وقد قرّرنا بالبراهين والإجماع عصمته - ﷺ - من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً ولا سهواً، أو أن يُشبَّه عليه ما يُلقيه الملك بما يُلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيلٌ، أو أن يتقوّل على الله لا عمداً ولا سهواً، ما لم ينَزَّل عليه، وقد قال الله تعالى :
(١)، وقال تعالى :(٢).
ووجه ثانٍ : وهو استحالة هذه القصة نظراً وعُرْفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما رُوي لكان بعيد الالتئام، لكونه متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذّم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي - ﷺ - ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمِّل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه.
(٢) سورة الإسراء : الآية ٧٥.
١١- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، ١٤٠٥هـ.
١٢- الأسماء والصفات، للبيهقي أحمد بن الحسين، تحقيق : عبد الله الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، الطبعة الثانية، ١٤١٣هـ.
١٣- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٤١٣هـ.
١٤- الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة العاشرة١٩٩٢م.
١٥- الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، لأبي حفص عمر البزار، تحقيق : صلاح الدين المنجد، الطبعة الأولى، ١٩٧٦م.
١٦- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم، تحقيق : مجدي السيد، دار الحديث، القاهرة.
١٧- أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان، لعبد العزيز المبدل، دار التوحيد للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤٢٤هـ.
١٨- الأم، للشافعي، تحقيق : محمود مطرجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٣هـ.
١٩- أمالي ابن الحاجب، لأبي عمر عثمان بن الحاجب، تحقيق : فخر قدارة، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٩هـ.
٢٠- إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، لأبي البقاء العكبري، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٢٣هـ.
٢١- أنوار التنْزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٨هـ.
٢٢- أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، لمحمد بن إبراهيم الشيباني، الطبعة الأولى، مكتبة ابن تيمية، الكويت.
٢٣- إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير اليماني، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية ١٤٠٧.