ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس على غير صفوف بل مرصوصين لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الناس من كل مكان، وكثروا كثرة لا توصف، فلما أذن الظهر وفرغ من الأذان أقيمت الصلاة على السدَّة بخلاف العادة ليسرعوا بالناس، فلما فرغوا من صلاة الظهر خرج نائب الخطيب لغيبته بالديار المصرية فصلى عليه إماماً ؛ وهو الشيخ علاء الدين بن الخراط(١).
ثم خرج الناس من كل مكان، من سائر أبواب الجامع، والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس من تعجل إلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل، ودعاء وثناء، وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة، يبكين ويدعين.
وبالجملة كان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله بدمشق، اللهم إلا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس بها كثيراً جداً، ثم دفن عند أخيه قريباً من أذان العصر.
ولم يتخلف من الناس إلا القليل من الضعفاء والمخدَّرات، وما علمت أحداً من أهل العلم تخلف عن الحضور في جنازته إلا النفر اليسير، وعُمِلت له ختمات كثيرة، ورئيت له منامات باهرة صالحة عجيبة، ورُثي بأشعار كثيرة جداً.
وقد أُفردت له تراجم كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم " (٢).
رحمه الله رحمة و اسعة، ورفع درجته في المهديين، وجمعنا به في جنات النعيم.(٣)

(١) هو الشيخ المعمر، علاء الدين، علي بن عثمان بن الخراط، توفي بدمشق سنة ٧٣٩هـ، له خطب ومقامات. انظر : شذرات الذهب ٦/١٢٢.
(٢) البداية والنهاية ١٤/١٣٥، وانظر :[ ط التركي ] ١٨/٢٩٩ – ٢٠٣ باختصار.
(٣) أهم المصادر في ترجمته :
١-... العقود الدرية، من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي.
٢-... ذيل طبقات الحنابلة، للحافظ ابن رجب الحنبلي ٢/٣٨٧.
٣-... البداية والنهاية لابن كثير ١٤/١٣٥ وما بعدها. قال الشيخ بكر أبو زيد :" وهذه الثلاث هي عيون تراجمه ".
٤-... الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، لمرعي بن يوسف الحنبلي.
٥-... الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، للحافظ أبي حفص عمر البزار.
٦-... الوافي بالوفيات، للصفدي، ٧/١٥ – ٣٣.
٧-... الدرر الكامنة في أعيان المائة الثانية، للحافظ ابن حجر العسقلاني ١/١٤٤ – ١٦٠.
٨-... الرد الوافر على من زعم بأن من سمي ابن تيمية شيخ الإسلام كافر، لابن ناصر الدين الدمشقي.
٩-... تذكرة الحفاظ، للذهبي، ٤/١٤٩٦.
١٠-... وهناك كتاب معاصر نفيس تقدم ذكره بعنوان الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون، جمعه محمد عزيز شمس، وعلي العمران، وقدَّم له الشيخ العلامة بكر أبو زيد، وقد حوى هذا الجامع خمساً وسبعين ترجمة لشيخ الإسلام مجموعة من بطون كتب التواريخ والتراجم المطبوعة والمخطوطة. وسبقت الإشارة إلى كثرة تراجمه القديمة والحديثة.

ووجه ثالث : أنه عُلم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلةٍ، وتخليط العدوِّ على النبي - ﷺ - لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشّمات بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرضٌ ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحكِ أحدٌ في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة، وكذلك ما روى في قصة القضية(١)، ولا فتنة أعظم من هذه البيِّنة لو وُجدت، ولا تَشْغِيْبَ للمعادي حيئنذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت، فما روي عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنتُ شفة(٢)، فدل على بطلها واجتثاث أصلها.
ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفّلي المحدثين ليلبِّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت :(٣).
وهاتان الآيتان يرُدّان الخبر الذي رووه ؛ لأنّ الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنّه لولا أن ثبّته لكاد يركن إليهم.
فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً ! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال - ﷺ - :" افتريت على الله، وقلت ما لم يقل "، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تُضْعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له.
وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى :(٤).
(١) المراد بها صلح الحديبية.
(٢) أي : كلمة.
(٣) سورة الإسراء : الآية ٧٣.
(٤) سورة النساء : الآية ١١٣.

٢٤- الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق : أحمد حسن فرحات، الطبعة الثانية، ١٤١١هـ، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
٢٥- الإيمان، لابن تيمية، تخريج : محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، ١٤١٣هـ.
٢٦- الإيمان، لابن منده، تحقيق : علي الفقيهي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، ١٤٠٦هـ.
٢٧- ابن تيمية وجهوده في التفسير، لإبراهيم خليل بركة، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٥هـ.
٢٨- اختيارات ابن تيمية في التفسير، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة النساء، جمعاً وترتيباً ودراسة، رسالة دكتوراة في جامعة الإمام، أعدها : محمد بن زيلعي هندي، مطبوعة بالحاسب الآلي، ١٤٢١هـ.
٢٩- الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، تحقيق : محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت.
٣٠- اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عبد الهادي، تحقيق : سامي بن محمد جاد الله، دار عالم الفوائد، مكة، الطبعة الأولى، ١٤٢٤هـ.
٣١- الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، لابن عبد البر، تحقيق : عبد المعطي قلعجي، دار ابن قتيبة، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤هـ.
٣٢- الاستغاثة في الرد على البكري، لابن تيمية، تحقيق : عبد الله بن دجين السهيلي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٧هـ.
٣٣- الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق : محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام، الرياض، الطبعة الثانية، ١٤١١هـ.
٣٤- الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال، لأحمد بن المنيِّر، مطبوع بهامش الكشاف، دار المعرفة، بيروت.
( ب )...
٣٥- بحر العلوم، لأبي الليث السمرقندي، تحقيق : علي معوض وزميليه، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٤١٣هـ.


الصفحة التالية
Icon