وهذه خاصية تميز بها شيخ الإسلام، بل إنه لم يقصد بيان غير المشكل، كما تقدم حينما طلب منه تلميذه ابن رُشيَّق أن يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن فقال :" إن القرآن فيه ما هو بيّن بنفسه، وفيه ما قد بينّه المفسرون في غير كتاب، ولكن بعضُ الآيات أشكل تفسيرُها على جماعة من العلماء، فربما يطلع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في تفسير آية تفسيراً، ويفسر غيرَها بنظيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل ؛ لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها " (١).
وبيان المشكل من أهم المطالب التي يحتاجها دارس التفسير، لا سيما وأن من المفسرين من يعرض عن بيان الإشكال، أو يتوقف فيه، أما الشيخ فله نفس طويل، وحرص شديد مع الأهلية التامة، لحل ما يشكل من معاني القرآن، وتقدم قوله :" ربما طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير... " (٢).
وقد ألف الشيخ رسالة مستقلة في تفسير آيات أشكلت على بعض الناس، وأخطأ فيها أصحاب كتب التفسير(٣).
وهناك آيات كثيرة فسَّرها شيخ الإسلام ليست مشكلة، كما هو ظاهر، وهذه فسَّرها في سياق حديثه عن قضايا أخرى، لم يقصد مجرد تفسيرها.
سادساً : اتباعه الدليل، وعدم التعصب لمذهب أو رأي :
(٢) انظر ص٣٧.
(٣) وهي موجودة في مجموع الفتاوى ١٥/٦١ لكنها ناقصة، وقد طبعت مستقلة وكاملة، بتحقيق : عبد العزيز الخليفة.
وقال الشنقيطي :" الذي يظهر لنا أنه الصواب وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين(١) هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنهم سحر أو شعر أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله ليست منَزلة من عنده، والدليل على هذا المعنى أن الله بيَّن أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحانُ الخلق ؛ لأنه قال : ، ثم قال : ، فقوله : يدل على أن الشيطان يلقي عليهم أن الذي يقرأه النبي ليس بحق، فيصدقه الأشقياء، ويكون ذلك فتنةً لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق لا الكذب، كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه، فهذا الامتحان لا يناسب شيئاً زاده الشيطان من نفسه في القراءة، والعلم عند الله - تعالى - " (٢).
القول الثاني : أن المراد بالتَّمنِّي في الآية : التَّمنِّي المعروف، أي : أحبَّ وأراد واشتهى إسلام أمته وطاعتهم لله ورسله، وتقدم قول الفراء :" وحديث النفس ".
قال ابن عطية :" وتمنَّى : معناه المشهور : أرادَ وأحبَّ " (٣).
قال الرازي :" وأما إذا فسَّرناها بالخاطر، وتمنِّي القلب، فالمعنى أن النبي - ﷺ - : متى تمنَّى بعض ما يتمناه من الأمور، وسوس الشيطان إليه الباطل، ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته " (٤).
وقال ابن جُزي :"وقيل : هو التمنِّي بمعنى حُب الشيء، وهذا المعنى أشهر في اللفظ، أي تمنَّى النبي - ﷺ - مقاربةَ قومه واستئلافهم" (٥).
(٢) تفسيره ٥/٧٣٢.
(٣) تفسيره ١١/٢١٠.
(٤) تفسيره ٢٣/٤٧، ثم ذكر وجوه وسوسة الشيطان له.
(٥) تفسيره ٢/٦١.
٢٠٤- كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد بن علي التهاوني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٨هـ.
٢٠٥- الكشاف عن حقائق التنْزيل وعيوب الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود الزمخشري، دار المعرفة.
٢٠٦- كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة، للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٤هـ.
٢٠٧- الكشف والبيان، تفسير الثعلبي، تحقيق : أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٢٢هـ.
٢٠٨- الكلام على مسألة السماع، لابن القيم، تحقيق راشد الحمد، دار العاصمة الرياض، الطبعة الأولى ١٤٠٩.
٢٠٩- الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق : عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٢هـ.
٢١٠- الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق : نجم عبد الرحمن خلف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٦هـ.
( ل )
٢١١- لسان العرب، لابن منظور، تحقيق : عبد الله علي الكبير وزملائه، دار المعارف.
٢١٢- لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، دار الكتاب الإسلامي القاهرة، الطبعة الأولى.
( م )
٢١٣- مباحث العقيدة في سورة الزمر، لناصر بن علي الشيخ، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، ١٤١٥هـ.
٢١٤- مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق : د. محمد فؤاد سزكين، طبعة الرسالة.
٢١٥- مجمع الزوائد، للهيثمي، طبعة الكتاب العربي.
٢١٦- المجموع شرح المهذب، للنووي، دار الفكر.
٢١٧- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب : عبد الرحمن بن قاسم، دار عالم الكتب، ١٤١٢هـ.
٢١٨- المجموعة العلية من كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وتحقيق : د. هشام الصيني، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، ١٤٢٤هـ.