١٢- وضعت فهارس كاشفة، تيسر الاستفادة من الرسالة
١٣- نظراً لأنني عملت أثناء البحث في أكثر من مكتبة، فقد رجعت في بعض المواضع إلى طبعات أخرى لبعض الكتب، وقد أشرت إلى الطبعة التي اعتمدت عليها فيها، وفي بعض الأحيان يكون في الطبعة المعتمدة سقط أو تصحيف، فأرجع إلى أخرى لاستدراكه، وأشير إليها.
١٤- لم أُدرج ضمن مسائل الدراسة الآيات التي يكون الخلاف فيها راجعاً إلى اختلاف عبارات المفسرين، لعدم الحاجة إلى ذلك ؛ إذ إن الخلاف فيها لفظي.
١٥- إذا قلت : شيخ الإسلام، أو الشيخ، فمرادي الإمام ابن تيمية رحمه الله.
صعوبات البحث :
واجهتني بعض الصعوبات، أثناء إعداد هذا البحث، وقد تذللت بعون الله وتوفيقه ومنها :
١- أن كلام شيخ الإسلام – رحمه الله – في التفسير منتشر، ومبثوث في كتبه الكثيرة، وبأساليب مختلفة، ثم إنه كثيراً ما يتكلم عن الآية في عشرات المواضع، وهذا يحتاج إلى تقليب كتبه، والمقارنة بين تفسيراته، وهل له اختيار في المسألة أم لا، وما هي النماذج المختارة من كلامه لإثباتها في البحث، وقد لا يتبين ذلك إلا بعد بحث المسألة، ولا يخفى الفرق بين هذا وبين دراسة اختيارات مفسر له كتاب محدد في التفسير، ومنهج معين في الاختيار والترجيح.
وقال ابن عاشور :" ولما كان الضُّر الحاصل من الأصنام ليس ضراً ناشئاً عن فعلها ؛ بل هو ضر ملابس لها أثبت الضرَّ بطريق الإضافة للضمير دون الإسناد، إذْ قال : ولم يقل : لمن يضرُّ ولا ينفع ؛ لأن الإضافة أوسع من الإسناد، فلم يحصل تنافٍ بين قوله : وقوله :
وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحضه للضرِّ وانتفاء النفع منه ؛ لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلا الضرّ " (١)، وهو بمعنى قول شيخ الإسلام.
وعند التأمل في هذه الأجوبة يظهر – والله أعلم – أنها كلها وجيهة ما عدا قولي الزمخشري، وأبي حيان، أما قول الزمخشري فتقدم الاعتراض عليه، وفيه تكلُّف، وأما قول أبي حيان فإنه فرَّق بين ما يعبد من دون الله وجعلها قسمين، وهذا خلاف الظاهر.
سورة الحج : الآية ١٨
قال تعالى :(٢).
رجح شيخ الإسلام أن المرد بقوله تعالى : الكفار وهم معطوفون على ما سبق أي : إنهم يسجدون وسجودهم سجود ظلهم ( أو خضوعهم )، أو أنهم لا يسجدون له السجود الشرعي ولذلك حق عليهم العذاب.
قال – رحمه الله – :" قال أبو الفرج : وفي قوله : قولان : أحدهما : أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلهم ؛ قاله مقاتل.
والثاني : أنهم لا يسجدون، والمعنى وكثير من الناس أبى السجود ويحق عليه العذاب لتركه السجود ؛ هذا قول الفراء(٣).
(٢) سورة الحج : الآية ١٨.
(٣) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، مولى بني أسد، أبو زكريا، المعروف بالفراء، إمام أهل الكوفة في النحو، ولد بالكوفة سنة ١٤٤هـ، من مؤلفاته : معاني القرآن، والمقصور والممدود، توفي وهو ذاهب إلى مكة سنة ٢٠٧هـ. انظر : تاريخ بغداد ١٤/١٤٩ ترجمة (٧٤٦٧)، وتهذيب التهذيب ١١/٢١٢.
وعن عمرو بن شعيب(١) عن أبيه عن جده أن مَرْثَد بن أبي مرثد الغَنَوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال عناقُ، وكانت صديقته، قال :"جئت إلى النبي - ﷺ - فقلت : يا رسول الله : أنْكح عناقَ ؟ قال : فسكت عنِّي، فنزلت : فدعاني فقرأها عليَّ، وقال : لا تنكحها " (٢).
وضَعَّف القولَ بأنها نزلت في أناس مخصوصين ابنُ القيم مبيناً أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(٣).
وضعَّف القولَ بأن المراد بالنكاح في الآية العقد جماعةٌ من المفسرين ؛ لأن الله تعالى ذكر فيها المشرك والمشركة، وقد أجمع العلماء على أن الزاني المسلم لا يحلُّ له نكاح المشركة، لقوله تعالى :(٤)، وكذلك الزانية المسلمة لا يحل لها نكاح المشرك، لقوله تعالى : ، فنكاح المشركة والمشرك لا يحل بحال، فدلَّ ذلك على أن المراد بالنكاح في الآية الوطء وليس العقد(٥).
(٢) أخرجه أبو داود ٢/٥٤٢ ح٢٠٥١، كتاب النكاح، باب قوله تعالى : وهذا لفظه، والترمذي ٥/٣٠٧ ح٣١٧٧، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة النور، والنسائي ٦/٦٦ ح٣٢٢٨، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية، وابن جرير ١٧/١٥١ ط التركي، وابن أبي حاتم كما في الدر ٥/٣٩، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ٢/٣٨٦.
(٣) إغاثة اللهفان ١/٧٢.
(٤) سورة البقرة : الآية ٢٢١.
(٥) انظر : تفسير ابن جرير ١٧/١٦٠ ط التركي، وابن عطية ١١/٢٦٧، والشنقيطي ٦/٧٢.
بمعنى الإخبار عما علموه ويكون منصوباً على نزع الخافض، أي : لا يشهدون بالزور، أو مفعولاً مطلقاً لبيان نوع الشهادة أي لا يشهدون شهادةً هي زورٌ لا حقّ " (١).
كما اختار الإمام البخاري في صحيحه أن شهادةَ الزور داخلةٌ فيما نهت عنه الآية(٢).
وأمّا شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى أن جميع الأقوال المذكورة داخلة في معنى الزور إلا القول الأخير وهو : أن المراد شهادة الزور، وتبعه في ذلك ابنُ القيم(٣)، وتقدم تعليل شيخ الإسلام لذلك، وهو أن الله تعالى قال : يشهد الزور بمعنى يحضرون، ولو أراد شهادة الزور لقال : يشهدون بالزور بمعنى يخبرون به.
والراجح - والله تعالى أعلم - أن الآية تشمل جميع ما ذكر فيها مما هو داخل تحت اسم الزور، حتى شهادة الزور كما ذهب إليه من تقدم ذكرهم من المفسرين.
وتوجه الآية على هذا المعنى التوجيه التالي : لا يشهدون شهادة الزور، فحُذِف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد أجاز هذا الوجه جماعةٌ من المفسرين(٤).
سورة الفرقان : الآية ٧٧
قال تعالى :(٥).
رجح شيخ الإسلام أن المصدر في قوله تعالى : مضاف إلى فاعله، وأن المعنى : لولا دعاؤكم إياه.
قال - رحمه الله - عند هذه الآية :" قيل : لولا دعاؤكم إياه، وقيل : لولا دعاؤكم إياكم، فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول تارة، ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى ؛ لأنه لا بد له من فاعل فلهذا كان هذا أقوى القولين، أي : ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه " (٦).
الدراسة :
(٢) صحيح البخاري ٥/٣٢٢، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور.
(٣) إغاثة اللهفان ١/٢٤٥.
(٤) انظر : تفسير الزمخشري ٣/١٠٥، والرازي ٢٤/٩٨، وأبي حيان ٦/٥١٦، والألوسي ١٩/٥١.
(٥) سورة الفرقان : الآية ٧٧.
(٦) الفتاوى الكبرى ٢/٢٤٠، وانظر : مجموع الفتاوى ١٥/١٢ و٢٧/٤٣٣.
– رحمه الله – أنه لا يُرد على هذا توهُّم أن الله – جلّ وعلا – داخل في جملة، بل المراد بالسماء كل ما سما، أي : علا وارتفع، وليس المراد بالسموات في الآية السموات السبع.
قال – رحمه الله – عند هذه الآية :" فاستثنى نفسه والعالم
ولا يجوز أن يقال : هذا استثناء منقطع ؛ لأن المستثنى مرفوع، ولو كان منقطعاً لكان منصوباً، والمرفوع على البدل، والعامل فيه هو العامل في المبدل منه، وهو بمنْزلة المفرَّغ(١)، كأنه قال :( لا يعلم الغيب إلا الله ) فيلزم أنه داخل في.
وقد قدَّمنا أن لفظ السماء يتناول كل ما سَمَا، ويدخل فيه السموات والكرسي، والعرش، وما فوق ذلك، لأن هذا في جانب النفي، وهو لم يقل هنا :( السموات السبع ) بل عم بلفظ. وإذا كان لفظ ( السماء ) قد يراد به السحاب ويراد به الفلك ويراد به ما فوق العالم ويراد به العلو مطلقاً فـ( السموات ) جمع ( سماء ) وكل من فيما يسمى ( سماء ) وكل من فيما يسمى ( أرضاً ) لا يعلم الغيب إلا الله. وهو سبحانه قال : ولم يقل ( ما ) فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ لتكون أبلغ فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا الله. وهذا هو الغيب المطلق عن [ جميع المخلوقين ] الذي قال فيه :(٢). والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه، ليس هو غيباً عمن شهده. والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا فيكون غيباً مقيدا، أي : غيباً عمن غاب عنه من المخلوقين لا عمن شهده ليس غيباً مطلقا غاب عن المخلوقين قاطبة " (٣).
الدراسة :
اختلف المفسرون في نوع الاستثناء في الآية على قولين :
(٢) سورة الجن : الآية ٢٦.
(٣) مجموع الفتاوى ١٦/١٠٩.
وقال - رحمه الله تعالى - :" اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له، والعمل له، والتوجه إليه، فهو مذكور في تقرير ألوهيته وعبادته وطاعته، لا في تقرير وحدانية كونه خالقاً ورباً... "، إلى أن قال :" وإذا كان كذلك كان حمل اسم الوجه في هذه الآية على ما يدل عليه في سائر الآيات أولى من حمله على ما [ لا ] يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب والسنة بل هذا هو الواجب دون ذاك لأن هذا استعمال للفظ فيما لم يرد به الكتاب، والكتاب قد ورد بغيره حيث ذكر " (١).
وقال - رحمه الله - عند هذه الآية :" وقوله : يقتضي أظهرَ الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان والأعمال وغيرها... "، إلى أن قال :" فقوله : أي : دينه وإرادته وعبادته، والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول أخرى، وهو قولهم : ما أريد به وجهه، وهو نظير قوله :(٢) فكل معبود دون الله باطل، وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسد باطل، وسياق الآية يدل عليه " (٣).
الدراسة :
اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : على أقوال :
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٢٢.
(٣) مجموع الفتاوى ٢/٤٢٧ – ٤٣٣، وانظر : ٨/١٦٦، وتفسير آيات أشكلت ١/٤١١.
قال تعالى :(١).
رجح شيخ الإسلام أن هذه الآية غير منسوخة، وأن مجادلة أهل الكتاب باقية.
قال - رحمه الله - عند هذه الآية :" قال مجاهد : الذين ظلموا منهم : أهل الحرب، من لا عهد لهم المجادلة لهم بالسيف.
وفي رواية عنه قال : لا تقاتل إلا من قاتلك، ولم يعطك الجزية.
وفي رواية عنه أيضاً قال : من أدى منهم الجزية فلا تقولوا له إلا خيراً. وعن مجاهد : إلا بالتى هي أحسن، فإن قالوا شراً فقولوا خيراً.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم(٢) : ليست منسوخة. ولكن عن قتادة : نسختها (٣)، ولا مجادلة أشد من السيف.
والأول أصح ؛ لأن هؤلاء من الذين ظلموا فلا نسخ " (٤).
وقال – رحمه الله – :" ويزعم من يزعم من هؤلاء أن قوله : منسوخ بآية السيف، وهؤلاء أيضاً غالطون، فإن الله تعالى قد أخبر عن قوم نوح وإبراهيم بمجادلتهم للكفار، حتى قالوا :(٥)، وقال عن قوم إبراهيم : ، إلى قوله :
(٦)، وذكر محاجة ابراهيم للكافر والقرآن فيه من مناظرة الكفار والاحتجاج عليهم ما فيه شفاء وكفاية، وقوله تعالى :
(٢) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العُمَرِي المدني، كان صاحب قرآن وتفسير، وهو ضعيف في الحديث، جمع تفسيراً في مجلد، وكتاباً في الناسخ والمنسوخ، توفي سنة ١٨٢هـ. انظر : سير أعلام النبلاء ٨/٣٤٩، وتقريب التهذيب ص٣٤٠.
(٣) سورة التوبة : الآية ٥.
(٤) الجواب الصحيح ١/٢٤١.
(٥) سورة هود : الآية ٣٢.
(٦) سورة الأنعام : الآيات ٨٠ – ٨٣.
ولم يرتض أبو حيان ما ذكراه من فائدة التأكيد حيث قال :" وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد(١) ويفيد رفع المجاز فقط " (٢).
وذهب قطرب(٣) وأبو البقاء إلى أنه ليس في الآية تكرار، وهو ما اختاره شيخ الإسلام.
قال قطرب :" وإن كانوا من قبل التنْزيل من قبل المطر " (٤) فجعل ( قبل ) الأولى للتنْزيل، و( قبل ) الثانية للمطر ".
قال الزجاج معقباً عليه :" والقول كما قالوا - يعني أصحاب القول الأول - لأن تنْزيل المطر بمعنى المطر لا يكون إلا بتنْزيل " (٥).
وقال أبو البقاء العكبري :" والأولى أن تكون الهاء فيها – - للسحاب أو الريح أو للكِسَفِ(٦)، والمعنى : وإن كانوا من قبل نزول المطر من قبل السحاب أو الريح، فتتعلق بـ " (٧).
وتقدم توجيه قول شيخ الإسلام.
والراجح - والله تعالى أعلم - ما ذهب إليه الجمهور من أن قوله تعالى :
(٢) تفسير أبي حيان ٧/١٧٤، قال السمين الحلبي :" ولا أدري عدم الظهور لماذا " الدر المصون ٩/٥٢.
(٣) هو محمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي، الشهير بقطرب، نحوي عالم بالأدب واللغة، بصري من الموالي، أول من وضع المثلث في اللغة، من مؤلفاته : معاني القرآن، والأضداد. انظر : تاريخ بغداد ٣/٢٩٨ ترجمة رقم (١٣٨٦)، شذرات الذهب ٢/١٥.
(٤) الدر المصون ٩/٥٢.
(٥) معانى القرآن للزجاج ٤/١٨٩.
(٦) جمع كِسْفَة : وهي القطعة من السحاب. انظر : معاني القرآن للزجاج ٤/١٨٩، والمفردات ص٧١١.
(٧) إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن ص٤٣٠، وفي توجيه هذا القول أقوال أخرى، انظر : الدر المصون ٩/٥٢، وتفسير الألوسي ٢١/٥٣.
وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " (١)، وهو قول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (٢).
والراجح – والله تعالى أعلم – القول الثالث، لورود النصوص الصريحة في ذلك،
وأن أزواجه رضي الله عنهن داخلات في أهل بيته، كما في حديث أبي حميد، وكما
يدل عليه سياق الآيات، فإن هذه الآية واقعة في أثناء الحديث عنهن رضي الله عنهن،
فما قبلها وما بعدها من الآيات كلها خطاب لهن، وهذا ما اختاره شيخ الإسلام كما تقدم، وهو اختيار السمعاني(٣)، والزمخشري(٤)، وابن عطية، وقال :" والذي يظهر
أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك ألبتة، فأهل البيت : زوجاته، وبنته، وبنوها،
وزوجها، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن، وأجاب عن حديث أم سلمة وقول النبي - ﷺ - لها :" وأنت إلى خير "، بأن البيت هنا يراد به بيت النَّسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم، وروي نحوه عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - " (٥).
واختاره أيضاً الرازي(٦)، والقرطبي ورجحه بالسياق(٧)، وابن جزي(٨) وقال :" هم أزواجه وذريته وأقاربه "، وأبو حيان(٩)، وأبو السعود(١٠)، وكلهم رجح دخولهن بالسياق.
(٢) أخرجه الواحدي ٣/٤٧٠.
(٣) تفسيره ٤/٢٨١.
(٤) الكشاف ٣/٢٣٦.
(٥) تفسيره ١٣/٧٣.
(٦) تفسيره ٢٥/٢١٠.
(٧) تفسيره ١٤/١١٩.
(٨) تفسيره ٢/١٨٨.
(٩) تفسيره ٧/٢٢٤.
(١٠) تفسيره ٧/ ١٠٣.
قال - رحمه الله - عند هذه الآية :" فالقول الجامع أن ( الظالم لنفسه ) هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، و( المقتصد ) القائم بأداء الواجبات، وترك المحرمات، و( السابق بالخيرات ) بمنْزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق " (١).
وقال - رحمه الله - :" فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك الحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه.
وقد ذكر الله سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة في ( سورة الواقعة ) و( المطففين ) و( هل أتى ) وذكر الكفار أيضاً، وأما هنا فجعل التقسيم للمصطفين من عباده " (٢).
الدراسة :
اختلف المفسرون في الظالم لنفسه المذكور في الآية هل هو مسلم أم كافر على قولين :
(٢) مجموع الفتاوى ٧/٣٥٨، وانظر : ٦/٣٩١، ٧/٤٨٥، ١٠/٦، ١١/١٨٣، ١٣/٣٣٧، ٣٨٣، ومنهاج السنة ٢/٣٤.
وحكى الإجماع كذلك أبو حيان(١)، وقد ورد ذلك عن جمع من السلف منهم ابن عباس، وعكرمة، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه(٢)، وقتادة(٣)، وغيرهم، وبهذا القول قال عامة المفسرين(٤).
قال ابن كثير بعد أن حكى هذا القول :" وهو الذي لم يُذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيرُهُ " (٥).
ورجح ابن تيمية – كما تقدم – وابن كثير، أن القرية المذكورة ليست أنطاكية المعروفة، وقد ردَّ ذلك من وجهين :
١ – أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربع اللاتي فيهن بتاركة(٦)، وهي أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، وأمّا أهل هذه القرية المذكورة في سورة يس فقد ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.
٢ – أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتل المشركين، ذكروه عند قوله تعالى :
(٢) أخرجه عنهم ابن جرير ١٠/٤٣١، وانظر : الدر المنثور ٥/٤٨٩.
(٣) أخرجه عبد الرزاق الصنعاني ٢/١٤٠.
(٤) انظر : تفسير ابن جرير ١٠/٤٣٠، ومعاني القرآن للزجاج ٤/٢٨٢، وتفسير السمرقندي ٣/٩٥، والواحدي في الوسيط ٣/٥١١، والزمخشري ٣/٢٨٢، وابن عطية ١٣/١٩٢.
(٥) تفسير ابن كثير ٣/٥٧٦.
(٦) بتاركة أو بطاركة جمع بَطْرَك، المقدَّم عند النصارى، ويطلق على رئيس رؤساء الأساقفة. المعجم الوسيط ١/٦١.
الثاني : أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة كما في سورة هود من قوله تعالى :(١) فلو كان الذبيح إسحاق لكان خُلفاً للوعد في يعقوب، وقال تعالى :(٢)، وقال تعالى في سورة الحجر :(٣) ولم يذكر أنه الذبيح، ثم لما ذكر البشارتين جميعا : البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح، ويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى :(٤)، وقوله :(٥) ولم يذكر الله الذبيح.
الوجه الثالث : أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والتخصيص لا بد له من حكمة، وهذا مما يقوي اقتران الوصفين، والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خُلق الذبيح، وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى :(٦) وهذا أيضا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح : وقد وصف الله إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف الله تعالى إسماعيل أيضا بصدق الوعد في قوله تعالى :(٧) ; لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفَّى به.
(٢) سورة الذاريات : الآيتان ٢٨ – ٢٩.
(٣) سورة الحجر : الآيات ٥٣ – ٥٥.
(٤) سورة الأنبياء : الآية ٧٢.
(٥) سورة العنكبوت : الآية ٢٧.
(٦) سورة الأنبياء : الآية ٨٥، وفي الأصل كتبت الآية هكذا : وهو تصحيف كما هو ظاهر، وآية ص٤٨ ليس فيها ذكر للصبر، بل خاتمتها :
(٧) سورة مريم : الآية ٥٤.
القول الخامس : أن الذي جاء بالصدق رسول الله - ﷺ -، وصدَّق به علي - رضي الله عنه - (١).
وضعِّفت هذه الأقوال الثلاثة بأنها تقتضي إضمار، وهو غير جائز على الأصح عند النحاة، من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقاً ؛ أي سواء عطف على موصول آخر أم لا.
ويضعَّفها أيضاً الإخبار عنه بالجمع(٢).
القول السادس : أن الذي جاء بالصدق : المؤمنون، والصدق القرآن، وهم المصدَّقون به ؛ وبه قال مجاهد(٣)، وعلى هذا يكون ( الذي ) بمعنى الجمع، كما يكون ( مَنْ ) بمعنى الجمع، وفي قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - :( والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به )(٤)، قال ابن كثير :" وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين ؛ فإن المؤمنين يقولون الحقَّ، ويعملون به، والرسول - ﷺ - أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير ؛ فإنه جاء بالصدَّق، وصدَّق المرسلين، وآمن بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " (٥).
(٢) ذكر ذلك الألوسي في تفسيره ٢٤/٣.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٣/١٣٢، وابن جرير ١١/٥، وعزاه في الدر المنثور ٥/٦١٥ لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن الضريس، وابن المنذر.
(٤) انظر : معاني القرآن للفراء ٢/٣١٩، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٣٥٤، وإعراب القرآن للنحاس ٤/١٢، وتفسير الشنقيطي ٧/٥٤، والقراءة شاذة.
(٥) تفسيره ٤/٥٩، وانظر : تفسير الألوسي ٢٤/٢.
الثاني : دعاء العبادة : وهو الثناء على الله - تعالى -، وامتثال أمره واجتناب نهيه، والتعبد له بأنواع العبادات، ووجه كون هذا دعاءً ؛ أن العابد إنما يريد بعبادته الفوز بمرضاة الله وجنته، والنجاة من عقوبته وناره، فهو في الحقيقة سائل وإن لم يأت بلفظ السؤال(١).
وكلا نوعي الدعاء متلازمان ؛ يدل أحدهما على الآخر، فإذا أريد المسألة والطلب دل على العبادة بطريق التضمن(٢)، لأن الدعاء نفسه عبادة لما يشتمل عليه من الرغبة والتضرع والذل لله.
وإذا أريد به دعاء العبادة فإنه يدل على دعاء المسألة بطريق الالتزام(٣)، لأن العابد لله
- تعالى - هو في الحقيقة سائل وإن لم بأت بلفظ السؤال فهو يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار ؛ لأنه إنما يعبد الله خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه لا يخلو من ذلك(٤).
وقد اختلف المفسرون في الدعاء المذكور في هذه الآية، هل هو دعاء عبادة، أم دعاء مسألة على أقوال :
(٢) دلالة التضمن : هي دلالة اللفظ على جزء ما وضع له، إرشاد الفحول للشوكاني ص١٧.
(٣) دلالة الالتزام : هي دلالة اللفظ على أمر خارج عما وضع له، انظر المرجع السابق.
(٤) انظر : مجموع الفتاوى ١٥/١٠ – ١١، وبدائع الفوائد ٣/٤، والدعاء ومنْزلته من العقيدة الإسلامية ١/١١٥.
وأيضاً فإن المصَّدقَ : الله ُهو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسناً إلى نفسه لا ظالماً لها " (١).
الدراسة :
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : في هذه الآية على أربعة أقوال :
القول الأول : أن المعنى : غير مقطوع ؛ وبه قال ابن عباس – رضي الله
عنهما –(٢)، قال الماوردي :" مأخوذ من مَنَنْت الحبل، إذا قطعتَه " (٣)، واختاره
الزمخشري(٤)، وابن كثير(٥)، والشنقيطي ونسبه للجمهور(٦)، والسعدي(٧).
ويدل لهذا القول الآيات الواردة في دوام نعيم أهل الجنة وعدم انقطاعه(٨)، كما في قوله تعالى :(٩)، وقوله تعالى :(١٠).
واستدل له بعض المفسرين بقول الشاعر :
إني لعمرك ما بابي بذي غَلَق | على الصديق ولا خيري بمنون(١١) |
القول الثاني : أن المعنى : غير منقوص ؛ وبه قال مقاتل(١٢).
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/٣٨١ [ ط التركي ] بلفظ :" غير منقوص "، وعزاه في الدر ٥/٦٧٥ أيضاً لابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وذكره الثعلبي ٨/٢٨٦ بلفظ :" غير مقطوع "، والقرطبي ١٥/٢٢٢.
(٣) تفسيره ٥/١٦٩، وانظر : تفسير ابن عطية ١٤/١٦٣.
(٤) تفسيره ٣/٣٨٣.
(٥) تفسيره ٣/٩٩.
(٦) تفسيره ٧/١١٥.
(٧) تفسيره ص٧٤٥.
(٨) انظر : تفسير ابن كثير ٤/٩٩، والشنقيطي ٧/١١٥.
(٩) سورة هود : الآية ١٠٨.
(١٠) سورة ص : الآية ٥٤.
(١١) البيت لذي الأصبع العدواني، انظر : ديوان الحماسة ١/٢٢٤، وقد استدل به القرطبي ١٥/٢٢٢، وأبو حيان ٧/٤٦٤، وغيرهما.
(١٢) ذكره عنه الثعلبي ٨/٢٨٦.
ومن أدلة هذا القول ما ذكره شيخ الإسلام من أن الله تعالى قال : ، ولو كان المراد المودة لذوي القربى لقال : إلا المودة للقربى أو لذوي القربى، كما ورد ذلك في آيات أخرى، وتقدم ذكرها في أثناء كلامه(١).
والاستثناء هنا منقطع على الأرجح(٢)، واختاره النحاس(٣)، وابن عطية(٤)، وابن عاشور(٥)، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى : لا أسألكم أجراً قط، ولكنْ أسألكم المودة في القربى التي بيني وبينكم(٦).
والقربى : اسم مصدر كالرُجعى، والبشرى، وهي قرابة النسب(٧).
القول الثاني : أن المعنى : قل لمن اتّبعك من المؤمنين : لا أسألكم على ما جئتكم به أجراً إلا أن تودُّوني في قرابتي، وقد رُوي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن هذه الآية نزلت في المدينة حينما قال ابن عباس أو العباس – شك الراوي - : لنا الفضل عليكم(٨)، وضعّفه ابن كثير، وقال :" وذكرُ نزولها في المدينة فيه نظر ؛ لأن السورة مكية، وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة " (٩).
(٢) انظر : الكشاف للزمخشري ٣/٤٠٢، والدر المصون ٩/٥٥٠.
(٣) معانيه ٤/٣٩٨.
(٤) تفسيره ١٤/٢١٨.
(٥) تفسيره ٢٥/٨٣.
(٦) تفسير الشوكاني ٤/٧٤٨.
(٧) المعجم الوسيط ٢/٧٢٣، وانظر : تفسير الزمخشري ٣/٤٠٢، وتفسير ابن عاشور ٢٥/٨٢.
(٨) تفسير ابن جرير ٢٠/٤٩٩ [ ط التركي ]، وابن أبي حاتم ١٠/٣٢٧٧.
(٩) تفسير ابن كثير ٤/١٢١، وقال الحافظ في الفتح ٨/٧١٧ :" وهذا أيضاً ضعيف، ويبطله أن الآية مكية ".
قال ابن قتيبة(١) :" الذكر يوضع موضع الشرف ؛ لأن الشريف يُذْكر " (٢)، وقال أبوحيان :" أي : شرف حيث نزل عليهم، وبلسانهم جُعل تبعاً لهم " (٣).
ويُستدل لهذا القول بحديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال : كنت قاعداً عند رسول الله - ﷺ - فقال :" ألا إن الله علم ما في قلبي من حبي لقومي، فشرفني فيهم فقال : ، فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه، ثم قال :
(٤)، يعني قومي، فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي، والشهيد من قومي، إن الله قلب العباد ظهراً وبطناً، فكان خير العرب قريش، وهي الشجرة المباركة التي قال الله في كتابه :
، يعني بها قريشاً
يقول : أصلها كرَمٌ (٥)، يقول : الشرف الذي شرفهم الله بالإسلام الذي هداهم له وجعلهم أهله، ثم أنزل فيهم سورة من كتاب الله بمكة (٦) إلى آخرها، قال عدي بن حاتم : ما رأيت رسول الله - ﷺ - ذُكر عنده قريش بخير قط إلا سرَّه، حتى يتبين ذلك السرور للناس كلهم في وجهه، وكان كثيراً ما يتلو هذه الآية " (٧).
(٢) تأويل مشكل القرآن ص١٤٧.
(٣) تفسير أبي حيان ٨/١٩.
(٤) سورة الشعراء : الآيتان ٢١٤ – ٢١٥.
(٥) سورة إبراهيم : الآية ٢٤.
(٦) سورة قريش : الآية ١.
(٧) الدر المنثور ٥/٧٢٥، وقد أخرجه الطبراني في الكبير بنحوه ١٧/٨٦، قال في مجمع الزوائد ١٠/٢٢٠ :" وفيه حصين السلولي، ولم أعرفه "، قال محقق الطبراني :" هو أبوجنادة "، قال في ميزان الاعتدال ٢/٥٥٤ قال الدارقطني :" يضع الحديث، ونقل ابن الجوزي أن ابن حبان قال : لا يجوز الاحتجاج به ".
قال ابن جرير مبيناً لقاعدتين في هذه المسألة مرجحاً الثانية على الأولى :" والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنْزيل ؛ لأن قوله : في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجاً عليهم لنبيه - ﷺ -، وهذه الآية نظير سائر الآيات قبلها، ولم يَجْرِ لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلَّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله - ﷺ - بأن ذلك عُني به عبدالله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلَم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك : وشهد عبدالله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب في التوراة أنه نبي تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي " (١).
القول السابع : أنهم أهل الأوثان ؛ وروي عن مجاهد(١).
القول الثامن : أنهم بنو حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ؛ وبه قال الزهري(٢)، كما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما -(٣)، وعكرمة، وسعيد بن جبير(٤) أنهم قالوا : هوازن وبنو حنيفة، وهم معروفون بالبأس والشدة.
وهو قول جمهور المفسرين، وممن اختاره الفراء(٥)، والنحاس(٦)، والواحدي وقال :" أكثر المفسرين على أن هؤلاء بنو حنيفة أتباع مسيلمة " (٧)، كما اختاره الزمخشري(٨)، والرازي(٩)، والبقاعي(١٠)، والألوسي(١١)، والسعدي(١٢).
وقد روي عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - أنه قال :" كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبوبكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم " (١٣).
القول التاسع : أنه فتح مكة ؛ واختاره القاسمي، وقال :" هو الأقرب ؛ لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عِدَةً بفتح مكة منصرفَه من الحديبية، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد ؛ إذ دعاهم النبي - ﷺ - إلى قتال قريش أو يسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً، والله أعلم " (١٤).
وهذا القول مردود من وجوه :
(٢) تفسير ابن جرير ١١/٣٤٥.
(٣) أورده السيوطي في الدر ٦/٦٧ وعزاه للفريابي وابن مردويه.
(٤) تفسير ابن جرير ١١/٣٤٥.
(٥) معانيه ٣/٦٦.
(٦) المعاني ٦/٥٠٤.
(٧) الوسيط ٤/١٣٨.
(٨) الكشاف ٣/٤٦٥.
(٩) تفسيره ٢٦/٨٠.
(١٠) نظم الدرر ١٨/٣١١.
(١١) تفسيره ٢٦/١٠٥.
(١٢) تفسيره ص١٩٣.
(١٣) ذكره الواحدي في الوسيط ٤/١٣٨، والبغوي ٧/٣٠٣ [ ط طيبة ].
(١٤) تفسير القاسمي ١٥/٨٢.
وهؤلاء الأعراب المذكورون في الآية وغيرهم قالوا : آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً، فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل الله، وقد كان دعاهم النبي - ﷺ - إلى الجهاد، وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون.
وقول المفسرين : لم يكونوا مؤمنين، نفي لما نفاه الله عنهم من الإيمان، كما نفاه عن الزاني والسارق والشارب، وعمَّن لا يأمنُ جارُه بوائقَه... ، فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر، لا من جنس المنافقين.
وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلامُ غيرِ المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين، بل قد يحسن إسلام أحدهم، فيصير من المؤمنين كأكثر الطلقاء.
وأما قوله تعالى : ، فـ( لما ) إنما ينفى بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً كقوله :(١)، وقوله :(٢)، فقوله : يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم ; فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد، ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك ; وقوله : أمر لهم بأن يقولوا ذلك والمنافق لا يؤمر بشيء ثم قال :
والمنافق لا تنفعه طاعة الله ورسوله حتى يؤمن أولاً ".
ثم ذكر الأدلة على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه، وأنهم ليسوا منافقين، وهي كما يلي :
١ - أنه قال : ثم قال :; فدل على أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام ; آجرهم الله على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة.
(٢) سورة البقرة : الآية ٢١٤.
قال – رحمه الله – عند هذه الآية :" وقد اختلف أهل التفسير هل يُكْتَبُ جميع أقواله ؟ فقال مجاهد وغيره : يكتبان كل شيء حتى أنِِيْنَه في مرضه، وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه، فإنه قال : نكرة في الشرط(١) مؤكدة بحرف
، فهذا يعمُّ كل قوله.
وأيضاً فكونه يؤجر على قول معين أو يؤزر يحتاج إلى أن يعرف الكاتب ما أمر به وما نهي عنه ؛ فلابد في إثبات معرفة الكاتب به إلى نقل.
وأيضاً فهو مأمور إما بقول الخير، وإما بالصمات ؛ فإذا عدل عمّا أمر به من الصمات إلى فضول القول الذي ليس بخير كان هذا عليه ؛ فإنه يكون مكروهاً، والمكروه ينقصه، ولهذا قال النبي - ﷺ - :" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (٢)، فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص من حسن إسلامه، فكان هذا عليه، إذْ ليس من شرط ما هو عليه أن يكون مستحقاً لعذاب جهنم وغضب الله، بل نقص قدره ودرجته عليه.
ولهذا قال تعالى :(٣)، فما يعمل أحد إلا عليه أو له ؛ فإن كان مما أمر به كان له، وإلا كان عليه، ولو أنه ينقص قدره " (٤).
الدراسة :
(٢) أخرجه أحمد ١/٢٠١، والترمذي ٤/٤٨٤ ح٢٣١٨، كتاب الزهد، باب (١١)، وابن ماجه ٢/١٣١٥ ح٣٩٧٦، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، وحسنه النووي في رياض الصالحين ص ٦٧ ح٦٨، وابن رجب في جامع العلوم والحكم ص١٣٥ ح١٢.
(٣) سورة البقرة : الآية ٢٨٦.
(٤) مجموع الفتاوى ٧/٤٩.
وبه قال الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري، وإبراهيم النخعي(١)، وزيد بن أسلم، وعبدالرحمن بن زيد(٢)، وعبدالله بن رواحة(٣).
واستدل له ابن جرير بسياق الآية، وأن الله تعالى وصفهم بذلك مدحاً لهم، وأثنى عليهم به، فوصفهم بكثرة العمل وسهر الليل... ، وقال :" مع أن الذي اخترنا في ذلك هو أغلب المعاني على ظاهر التنْزيل " (٤).
وبه قال جمهور المفسرين، وممن اختاره ابن جرير(٥)، والزجاج(٦)،
وابن عطية(٧)، والزمخشري(٨)، والبيضاوي(٩)، وأبوالسعود(١٠)، والقاسمي(١١)، والسعدي(١٢)، وابن عاشور(١٣).
القول الثالث : أن قوله متصلة بما قبلها، أي : ، ثم استأنف، والمعنى : لا ينامون قليلاً من الليل، وعلى هذا تكون نافية ؛ وبه قال الضحاك(١٤)، ومقاتل(١٥).
وقد ردَّ هذا الوجه جماعة من المفسرين.
قال ابن كثير :" وهذا القول فيه بُعد وتعسّف " (١٦).
وقال ابن الأنباري :" وهذا فاسد ؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم " (١٧).
(٢) تفسير ابن جرير ١١/٤٥٥.
(٣) ذكره السيوطي في الدر ٦/١٣٥، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه.
(٤) تفسير ابن جرير ١١/٤٥٥.
(٥) تفسيره ١١/٤٥٥.
(٦) معاني القرآن ٥/٥٣.
(٧) تفسيره المحرر الوجيز ٥/١٧٥.
(٨) تفسيره ٤/٢٨.
(٩) تفسيره ٢/٤٢٨.
(١٠) تفسيره ٨/١٣٨.
(١١) تفسيره محاسن التأويل ١٥/٩.
(١٢) تفسيره ص٨٠٩.
(١٣) تفسيره التحرير والتنوير ٢٦/٣٥٠.
(١٤) تفسير ابن جرير ١١/٤٥٤، وانظر : الدر المنثور ٦/١٣٤.
(١٥) ذكره عنه ابن الجوزي ٧/٢٠٦، والبغوي ٧/٣٧٣ [ ط طيبة ].
(١٦) تفسير ابن كثير ٤/٢٥٠.
(١٧) ذكره عنه القرطبي ١٧/٢٥، ولم أجده في كتابه البيان.
قال الشوكاني :" ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاصَّ لا ينسخ العام، بل يخصِّصُه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به، وهو من غير سعيه، كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم " (١).
القول الثالث : أن المراد بالإنسان هنا الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى، وما سُعي له ؛ قاله الربيع بن أنس(٢)، وقّواه القرطبي(٣)، وضعّفه الرازي(٤)، و ابن القيم، وبيّن أن السياق يدل على العموم، وأن لفظ الإنسان إذا أطلق في القرآن يراد به الإنسان من حيث هو(٥).
القول الرابع : أنها منسوخة بقوله تعالى :(٦)، فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء ؛ قاله ابن عباس(٧).
قال ابن عطية :" وهذا لا يصح عندي على ابن عباس، لأنه خبر لا ينسخ، ولأن شروط النسخ ليست هنا، اللهم إلا أن يتجوز في لفظ النسخ ليفهم سائلاً " (٨).
وقال ابن الجوزي :" ولا يصح ؛ لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تنسخ " (٩).
وضعّفه ابن القيم وقال :" ولا يُرفع حكمُ الآية بمجرد قول ابن عباس – رضي الله عنهما – ولا غيره أنها منسوخة، والجمع بين الآيتين غير متعذر، ولا ممتنع، فإن الأبناء يتبعون الآباء في الآخرة كما كانوا تبعاً لهم في الدنيا، وهذه التبعِّية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم " (١٠).
(٢) ذكره عنه الثعلبي ٩/١٥٣، وابن الجوزي ٧/٢٣٧، والقرطبي ١٧/٧٥.
(٣) تفسيره ١٧/٧٥.
(٤) تفسيره ٢٩/١٤.
(٥) الروح ص١٥٣.
(٦) سورة الطور : الآية ٢١.
(٧) أخرجه ابن جرير ١١/٥٣٤، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ٣/٣٦، وعزاه في الدر ٦/١٦٩ أيضاً لابن المنذر وابن مردويه.
(٨) تفسيره ١٥/٢٨٠، وضعّفه الرازي في تفسيره ٢٩/١٤ أيضاً، وانظر : تفسير أبي حيان ٨/١٦٤.
(٩) زاد المسير ٧/٢٣٧، وهكذا قال في تفسيره ٢/٣٨٤.
(١٠) الروح ص١٥٤.
القول الثاني : أن الضمير في قوله : راجع إلى القرآن، والضمير في قوله : عائد إلى المصحف، والمراد بـ المطهرون من الأحداث، فيكون ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي(١).
قال النووي :" واحتج أصحابنا بقول الله تعالى :(٢)، فوصفه بالتنْزيل، وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا، فإن قالوا : المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، ولهذا قال : بضم السين على الخبر، ولو كان المصحف لقال يمسَّه بفتح السين على النهي.
فالجواب أن قوله تعالى : ظاهر في إرادة المصحف، فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح، وأما رفع السين فهو نهي بلفظ الخبر كقوله :(٣)... " (٤).
وقال الباجي(٥) عند قوله تعالى :: " هذا نهي وإن كان لفظه لفظ الخبر، فمعناه الأمر ؛ لأن خبر الباري تعالى لا يكون بخلاف مخبره، ونحن نشاهد من يمسه غير طاهر " (٦).
وقيل : إن معنى الكلام النهي، وضمة السين ضمة بناء(٧).
ومما يضعف هذا القول قراءة ابن مسعود :( ما يمسُّه )(٨).
(٢) سورة الواقعة : الآيات ٧٧ – ٨٠.
(٣) سورة البقرة : الآية ٢٣٣.
(٤) المجموع شرح المهذب ٢/٧٢.
(٥) هو سليمان بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي، أبو الوليد، فقيه مالكي من رجال الحديث، توفي سنة ٤٧٤هـ، من مؤلفاته : إحكام الفصول في أحكام الأصول، والمنتقى في شرح موطأ مالك. انظر : تهذيب تاريخ دمشق الكبير ٦/٢٥٠، ووفيات الأعيان ٢/٤٠٨ ترجمة رقم (٢٧٥).
(٦) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك للباجي ١/٣٤٣.
(٧) تفسير ابن عطية ١٥/٣٨٧.
(٨) انظر : تفسير ابن جرير ١١/٦٦١، وابن عطية ٥/٢٥٢، وأبي حيان ٨/٢١٣.
فقال : يا رسول الله أفتح هو ؟ قال :" إي والذي نفسي بيده إنه لفتح " (١).
وعن البراء بن عازب – رضي الله عنهما – قال :" تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية " (٢).
واختار هذا القول بعض العلماء، كابن جرير(٣)، والنحاس(٤)، والكيا الهراسي(٥) (٦)، والسعدي(٧)، وهو اختيار شيخ الإسلام – كما تقدم -.
القول الثاني : أن المراد بالفتح فتح مكة، وروي عن ابن عباس – رضي الله
عنهما –(٨)، وبه قال قتادة (٩)، وزيد بن أسلم(١٠).
(٢) أخرجه البخاري ٧/٥٠٥ ح٥١٥٠، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، وانظر : نفس المرجع ٧/٥١٦ ح٤١٧٢.
(٣) تفسيره١١/٦٧٤.
(٤) إعراب القرآن ٤/٣٥٣، والناسخ والمنسوخ ٣/١٨.
(٥) هو علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الطبري، الملقب بعماد الدين، والمعروف بالكيا الهراسي، الفقيه الشافعي، من مؤلفاته : أحكام القرآن، ولد سنة ٤٥٠هـ، وتوفي سنة ٥٠٤هـ. انظر : سير أعلام النبلاء ١٩/٣٥٠، وشذرات الذهب ٦/١٤.
(٦) أحكام القرآن ٤/٤٠١.
(٧) تفسيره ص٨٣٩.
(٨) ذكره عنه ابن الجوزي في زاد المسير ٧/٣٠.
(٩) أخرجه عبد الرزاق ٢/٢٧٥، وابن جرير ١١/٦٧٣.
(١٠) أخرجه عنه ابن جرير ١١/٦٧٤.
الأول : أن الباء ظرفية، بمعنى ( في )، والمعنى : في أي الفريقين منكم يكون المجنون، أي : من يصدق عليه هذا الوصف، والباء تأتي بمعنى ( في ) كما يقال : زيد بالبصرة، وهذا المعنى مرويٌ عن مجاهد - كما تقدم - واختاره الفراء(١)، وتؤيده قراءة أُبي وأبي عمران الجوني وابن أبي عبلة ( في أيكم المفتون )(٢).
قال النحاس :" والمعنى عليه : فستعلم وسيعلمون في أي الفريقين المجنون الذي لا يتبع الحق، أفي فريقك، أم في فريقهم " (٣).
وقال عنه ابن عطية :" هذا قول حسن قليل التكلف " (٤).
وقد ضعّف هذا شيخ الإسلام كما تقدم، وقال :" إن جميع الكفار مفتونون بالشيطان، وفيهم الشيطان المفتون، ليس المقصود أن يعاب الفريق بواحد منهم " (٥).
الوجه الثاني : أنه على حذف مضاف والتقدير، بأيكم فُتن المفتون، وتكون الباء سببية، واختاره الأخفش(٦).
وعلى هذين القولين يكون اسماً وليس بمصدر(٧).
الوجه الثالث : أنه مصدر جاء على وزن مفعول، كالمعقول بمعنى العقل، والميسور بمعنى اليسر، وهذا المعنى مروي عن الحسن والضحاك - كما تقدم - وتقدير الكلام على هذا : بأيكم الفُتون(٨).
(٢) القراءة شاذة، وقد ذكرها ابن الجوزي ٨/٦٧، واستدل بها لهذا القول، كما استدل بها ابن عطية، وشيخ الإسلام، والسمين.
(٣) إعراب القرآن ٥/٧.
(٤) تفسير ابن عطية ١٦/٤٢.
(٥) إعراب القرآن ٥/٧.
(٦) معاني القرآن ٢/٥٤٧، وانظر : الدر المصون ١٠/٤٠١.
(٧) انظر : معاني القرآن للفراء ٣/١٧٣.
(٨) انظر : معاني القرآن للزجاج ٥/٢٠٥.
قال أبو حيان :" والظاهر أن قوله المراد به الجارحة، فقال الحسن : المعنى قطَّعناه عبرةً ونكالاً، والباء على هذا زائدة " (١).
والراجح - والله أعلم - القول الأول، لأنه ظاهر الآية، لا يحتاج إلى تأويل، وهو أسلوب معروف عند العرب.
قال - رحمه الله - :" يرقيها، وقيل : من صاعد يصعد بها إلى الله، والأول أظهر ؛ لأن هذا قبل الموت، فإنه قال :(١)، فدل على أنهم يرجونه، ويطلبون له راقياً يرقيه، وأيضاً فصعودها لا يفتقر إلى طلب من يَرْقَى بها، فإن لله ملائكة يفعلون ما يؤمرون، والرُّقية أعظم الأدوية، فإنها دواء روحاني ؛ ولهذا قال النبي - ﷺ - في صفة المتوكلين :" لا يَسْتَرقون " (٢)، والمراد أنه يخاف الموت ويرجو الحياة بالراقي، ولهذا قال :" (٣).
الدراسة :
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : على قولين :
القول الأول : أنه قول أهل المُحْتضَر : هل من راق يرقيه بالرُّقى، أو طبيب يداويه، فهو مشتق من الرُّقية.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما –(٤) وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو
قِلاَبة(٥)، وقتادة(٦).
قال ابن زيد عند هذه الآية :" يقول تعالى ذكره : قال أهله : من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به ؟ وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر الله الذي قد أنزل به شيئاً " (٧).
(٢) أخرجه البخاري ١٠/٢٦٠ ح٥٧٥٢، كتاب الطب، باب من لم يرق، ومسلم ١/١٩٩ ح٢٢٠، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، عن ابن عباس.
(٣) مجموع الفتاوى ٤/٢٦٤.
(٤) ذكره عنه ابن الجوزي ٨/١٣٩، والسيوطي في الدر ٦/٤٧٧، وعزاه لعبد بن حميد.
(٥) هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجَرْمي، أبو قِلابَة البصري، ثقة فاضل، كثير الإرسال، توفي بالشام هارباً من القضاء سنة ١٠٤هـ. انظر : تهذيب الكمال ١٤/٥٤٢، وتقريب التهذيب ص٣٠٤.
(٦) أخرجها ابن جرير ١٢/٣٤٥ - ٣٤٦، وأخرجه عن قتادة عبدالرزاق ٣/٣٧١ [ ت محمود عبده ]، وانظر : الدر ٦/٤٧٧.
(٧) أخرجه ابن جرير ١٢/٣٤٥.
قال ابن عطية :" لأنها على غير هدى، فلا ثمرة لعملها إلا النصب، وخاتمته في النار، قالوا : والآية في القسيسين، وعبدة الأوثان، وكل مجتهد في كفر " (١).
وقال القاسمي :" ويؤيده مقابلة هذه الآية لقوله في أهل الجنة : وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا " (٢).
ويستدل لهذا القول بأن الآخرة ليست دار عمل(٣).
القول الثالث : أن المعنى : عاملة في الدنيا بالمعاصي، ناصبة في النار يوم القيامة ؛ وبه قال عكرمة(٤)، والسدي(٥).
قال الرازي :" الوجه الثالث : وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة، وبعضها في الدنيا، ففيه وجوه :
أحدها : أنها خاشعة في الآخرة، مع أنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة، والمعنى : أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا...
ثانيها : أنها خاشعة عاملة في الدنيا، ولكنها ناصبة في الآخرة ؛ فخشوعها في الدنيا : خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها، وعملها هو صلاتها وصومها، ونصبها في الآخرة : هو مقاساتها العذاب " (٦).
والراجح - والله تعالى أعلم - القول الأول، لقوة أدلته، ويؤيده القاعدة الترجيحية : القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك(٧)، وقد استدل بها شيخ الإسلام، كما في الوجه الثالث.
(٢) تفسيره ١٧/١٣٤.
(٣) انظر : تفسير القرطبي ١٩/١٩.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ١٠/٣٤٢٠، وذكره الثعلبي ١٠/١٨٧، وانظر : الدر ٦/٥٧٣.
(٥) ذكره عنه الثعلبي ١٠/١٨٧، والسمعاني ١٦/٢١٢، وابن كثير ٤/٥٣٧.
(٦) تفسيره ٣١/١٣٨.
(٧) انظر : قواعد الترجيح ١/١٧٨، ١٨٥.
(١)، فأقسم بالشمس والقمر والليل والنهار وآثارها وأفعالها كما فرق بينهما في قوله :(٢)، وقال :
(٣)، فإنه بأفعال هذه الأمور وآثارها تقوم مصالح بني آدم وسائر الحيوان، وقال : ولم يقل :( ونهارها ) ولا ( ضيائها ) لأن ( الضحى ) يدل على النور والحرارة جميعاً وبالأنوار والحرارة تقوم مصالح العباد.
ثم أقسم بالسماء والأرض وبالنفس ولم يذكر معها فعلاً فذكر فاعلها فقال : ،، ، فلم يصلح أن يقسم بفعل النفس لأنها تفعل البر والفجور، وهو سبحانه لا يقسم إلا بما هو معظم من مخلوقاته، لكن ذكر في ضمير القسم أنه خالق أفعالها بقوله :(٤)، فإذا كان قد بين أنه خالق فعل العبد الذي هو أظهر الأشياء فعلاً واختياراً وقدرة، فلأن يكون خالق فعل الشمس والقمر والليل والنهار بطريق الأولى والأحرى، وأما السماء والأرض فليس لهما فعل ظاهر يعظم في النفوس حتى يقسم بها إلا ما يظهر من الشمس والقمر والليل والنهار، والسماء والأرض أعظم من الشمس والقمر والليل والنهار، والنفس أشرف الحيوان المخلوق، فكان القسم بصانع هذه الأمور العظيمة مناسباً، وكان إقسامه بصانعها تنبيهاً على أنه صانع ما فيها من الشمس والقمر والليل والنهار، فتضمن الكلام الإقسام بصانع هذه المخلوقات وبأعيانها وما فيها من الآثار والمنافع لبني آدم " (٥).
(٢) سورة فصلت : الآية ٣٧.
(٣) سورة يس : الآية ٤٠.
(٤) سورة الشمس : الآيتان ٧ – ٨.
(٥) مجموع الفتاوى ١٦/٢٢٧.
واختار هذا القول جمهور المفسرين، وممن اختاره ابن جرير(١)، والثعلبي(٢)، والسهيلي(٣)، والواحدي(٤)، وابن عطية(٥)، والرازي(٦)، وأبو حيان(٧)، وأبو السعود(٨)، والشوكاني(٩)، والألوسي(١٠).
قال أبو السعود :" استئناف مقرر لما قبله أي : إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للعبادة، أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وطريق الضلال وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه، حيث بينا حال من سلك كلا الطريقين ترغيباً وترهيباً " (١١).
وقد جعل ابن القيم قول الفراء : ويقال : إن علينا للهدى والإضلال قولاً آخر في المسألة، وقال :" وهذا أضعفُ من القول الأول - إن علينا لبيان الحق من الباطل - وإن كان معناه صحيحاً، فليس هو معنى الآية " (١٢) وقد تعقبه شيخ الإسلام كما سبق.
وظاهر كلام أكثر المفسرين أنهما بمعنى واحد.
وقال الشيخ محمد العثيمين عند هذه الآية :" فيه التزام من الله - عز وجل - أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه، والمراد بالهدى هنا : هدى البيان والإرشاد ؛ فإن الله تعالى التزم على نفسه بيان ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة، وهذا قوله تعالى :
إلى أن قال :
(١٣) فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة الهدى، ولذلك التزم الله عزّ وجل بأن يبين الهدى للإنسان وليُعلم أن الهدى نوعان :
(٢) تفسيره ١٠/٢١٨.
(٣) تفسيره ٢/٥٨٠.
(٤) الوسيط ٤/٥٠٥.
(٥) المحرر الوجيز ١٥/٣١٨.
(٦) تفسيره ٣١/٢٠٢.
(٧) البحر المحيط ٨/٤٧٨.
(٨) تفسيره ٦/١٦٧.
(٩) فتح القدير ٥/٦٥١.
(١٠) تفسيره ٣٠/١٥٠.
(١١) تفسيره ٩/١٦٧، وانظر : تفسير الألوسي ٣٠/١٥٠، والقاسمي ١٧/٦١٧٨، وابن عاشور ٣٠/٣٨٨.
(١٢) التبيان ص٤٥، وانظر : مدارج السالكين ١/٢٤ – ٢٥.
(١٣) سورة النساء : الآيات ١٦٣ – ١٦٥.
واختار هذا القول القاسمي، وقال :" والأظهر عندي اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية، وأنها من أواخر ما نزل، أن يكون معنى قوله تعالى : أي : فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم، بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار، شكراً لله على ما أنعم، وارغب إليه خاصة ابتغاءً لمرضاته، فتكون الآيتان بمعنى سورة (١)، ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال : فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب، وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه ؛ إلا أن السياق والنظائر - وهو أهم ما يرجع إليه - يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه، والله أعلم " (٢).
القول الرابع : فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ؛ وروي عن ابن مسعود(٣).
القول الخامس : فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك ؛ وبه قال الشعبي، والزهري(٤)، ولعلّ هذا بمعنى القول الثاني، فقد روي عن ابن عباس :" إذا فرغت من صلاتك وتشهدت فانصب إلى ربك واسأله حاجتك " (٥).
القول السادس : إذا صح بدنك فاجعل صحتك نصباً في العبادة، ذكره علي بن أبي طلحة(٦)، ولعل هذا دخل في معنى القول الأول.
وهناك أقوال أخرى في الآية(٧).
والراجح - والله أعلم - القول الأول قول شيخ الإسلام، ومن وافقه لأنه كما قال النحاس :" جامع لجميع الأقوال ".
(٢) تفسيره ١٧/١٨٨، وانظر : ص١٨٢.
(٣) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، انظر : الدر ٦/٦١٧.
(٤) ذكره عنهما الواحدي في الوسيط ٤/٥٢١، وانظر : السمعاني ٦/٢٥٢.
(٥) ذكره في الدر ٦/٦١٧، وعزاه لابن مردويه.
(٦) ذكره ابن الجوزي ٨/٢٧٣.
(٧) انظر : تفسير الثعلبي ١٠/٤٢٧، والماوردي ٦/٢٩٩.
وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب في ذلك ؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال احتجاجاً بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت ؛ ألا ترى أنه يقول :(١)، يعني : بعد هذه الحجج، ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين، وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به ؛ وإن لم يكونوا له محسين، وإذا كان ذلك كذلك وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين، من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجَلَََد، إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف " (٢).
قال النحاس :" وقال غيره : هذا - أنه لايحتج عليهم بما ينكرونه من البعث - لا يلزم ؛ لأن حجج الله ظاهرة، وقد ظهرت آيات نبيه - ﷺ - فوجب أن يكون كل ما أخبر به بمنْزلة المُعَايَن " (٣).
وقال ابن قتيبة :" والسَّافلون : هم الضعفاء، والزَّمْنَى والأطفال، ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلا، وتقول سَفَل يَسْفُل فهو سافل، وهم سافلون، كما تقول : علا يَعْلُو فهو عالٍ، وهم عالون، وهو مثل قوله سبحانه :(٤)، وأراد : أن الهَرَمَ يخْرَف، ويُهترُ(٥)، وينقص خَلْقُه، ويضعف بصره وسمعه، وتقل حيلته، ويعجز عن عمل الصالحات فيكون أسفلَ من هؤلاء جميعاً " (٦).
(٢) تفسيره ٢٤/٥١٦ [ ط التركي ].
(٣) إعراب القرآن ٥/٢٥٧.
(٤) سورة الحج : الآية ٥.
(٥) الْهُتْرُ : ذهاب العقل، من مرض أو كبَر أو حُزن ونحوها. المعجم الوسيط ٢/٩٧١، مادة (هتر).
(٦) تأويل مشكل القرآن ص٣٤٢، وانظر : الوسيط للواحد ٤/٥٢٤، والبغوي ٤/٥٠٤.
واختاره ابن جرير، وقال :" وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : معنى ذلك لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد حتى تأتيهم البينة، وهي إرسال الله إياه رسولاً إلى خلقه رسول من الله، وقوله : في هذا الموضع عندي من انفكاك الشيئين أحدهما من الآخر ؛ ولذلك صلح بغير خبر، ولو كان بمعنى :( ما زال ) احتاج إلى خبر يكون تماماً له، واستؤنف قوله :(١) وهي نكرة على البينة، وهي معرفة كما قيل :(٢)، فقال : حتى يأتيهم بيانُ أمر محمد أنه رسول الله، ببعثه الله إياه إليهم، ثم ترجم عن البينة، فقال : تلك البينة، يقول : يقرأ صحفا مطهرة من الباطل " (٣).
واختاره النحاس أيضاً، وقال :" ومعنى القول الثاني لم يكن الكفار متفرِّقين إلا من بعد أن جاءهم الرسول ؛ لأنهم فارقوا ما عندهم من صفة النبي - ﷺ - فكفروا بعد البيان، وهذا القول في العربية أولى ؛ لأن لو كان بمعنى ( زائلين ) لاحتاج إلى خبر، ولكنْ يكون من انفكَّ الشيء من الشيء أي فارقه..." (٤).
قال القرطبي :"وعلى هذا فقوله : أي : ما كانوا يسيئون القول في محمد - ﷺ - حتى بُعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه وبعث إليهم فحينئذ عادوه " (٥).
والفراء ذكر القولين الأول والثاني ولم يرجح، لكن استدل للثاني بقوله تعالى :(٦)، وقد ذكر شيخ الإسلام كما تقدم أن القول الثاني هو قوله، وكذا ذكره عنه أبو حيان.
القول الثالث : أن المعنى : لم يكونوا متروكين حتى يُرسل إليهم رسول(٧).
(٢) سورة البروج : الآيتان ١٥ – ١٦.
(٣) تفسيره ١٢/٦٥٦.
(٤) إعراب القرآن ٥/٢٧٢.
(٥) تفسيره ٢٠/٩٦.
(٦) انظر : معاني القرآن ٣/٢٨١.
(٧) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٨/٢٨٩.
وذهب ابن كثير إلى أن السهو المذكور في الآية يشمل جميع ما ذكر فيه، وما يدخل تحته حيث قال :" الذين هم من أهل الصلاة، وقد التزموا بها، ثم هم عنها ساهون إما عن فعلها بالكلية ؛ كما قاله بن عباس، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعاً فيخرجها عن وقتها بالكلية ؛ كما قاله مسروق وأبو الضحى، وقال عطاء بن دينار(١) : الحمد لله الذي قال : ولم يقل : في صلاتهم ساهون. وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائماً أو غالباً، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل له النفاق العملي، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - ﷺ - قال :" تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلا "، فهذا أخر صلاة العصر التي هي الوسطى كما ثبت به النص إلى آخر وقتها وهو وقت كراهة ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب لم يطمئن ولا خشع فيها أيضاً، ولهذا قال :" لا يذكر الله فيها إلا قليلاً "، ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس ؛ لا ابتغاء وجه الله، فهو كما إذا لم يصلِّ بالكلية " (٢).
وقد وافقه الألوسي على ذلك، وقال :" وللسلف أقوال كثيرة في المراد بهذا السهو، ولعلّ كلَّ ذلك من باب التمثيل، ثم ذكر أقوالهم " (٣).
(٢) تفسيره ٤/٥٩٣.
(٣) تفسيره ٣٠/٢٤٢.
لا يتناول هذا كله، وقوله : اسم فاعل قد عمل عمل الفعل ليس مضافاً فهو يتناول الحال والاستقبال أيضاً، لكنه جملة اسمية والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى كما تقول :( ما أفعل هذا، وما أنا بفاعله )، وقولك :( ما هو بفاعل هذا أبداً ) أبلغ من قولك :( ما يفعله أبداً ) ؛ فإنه نفى عن الذات صدور هذا الفعل عنها بخلاف قولك :( ما يفعل هذا ) فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه، ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له ; بخلاف قوله :( ما هو فاعلاً وما هو بفاعل ) كما في قوله :
(١)، وقوله :
(٢)، وقوله :(٣)، (٤)، (٥)، (٦).
ولا يقال : الجملة الاسمية ترك الثبوت ونفي ذلك لا يقتضي نفي العارض ؛ فإن هذه الجملة في معنى الفعلية نفي لكونها عملت عمل الفعل، لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا فنفت عن الذات أن يعرض لها هذا الفعل تنْزيها للذات ونفياً لقبولها لذلك، فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل، فقوله :
(٢) سورة إبراهيم : الآية ٢٢.
(٣) سورة البقرة : الآية ٧٤.
(٤) سورة النمل : الآية ٨١.
(٥) سورة فاطر : الآية ٢٢.
(٦) سورة البقرة : الآية ١٠٢.
قال الشوكاني :" وهذا لا ينافي القول الأول لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصَّمد، ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج، ولهذا أطبق على القول الأول أهل اللغة وجمهور أهل التفسير " (١).
القول الثالث : أنه الذي لا يخرج منه شيء، قال عكرمة :" الذي لم يخرج منه شيء ولم يلد ولم يولد " (٢).
القول الرابع : أنه الذي لم يلد ولم يولد، قال أبي بن كعب - رضي الله عنه - :" قال المشركون : لرسول الله - ﷺ - : انسب لنا ربك، فأنزل الله : فالصمد الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيءٌ يولد إلا سيموت، ولا شيء يموت إلا سيورث، وإن الله – عزّ وجل – لا يموت ولا يورث " (٣).
وبه قال أبو العالية، وأبو سعيد الصنعاني(٤)، ومحمد بن كعب، وعلى هذا القول يكون قوله تعالى بعده : تفسيراً له(٥).
وهذان القولان بمعنى القول الثاني.
القول الخامس : أنه الباقي الذي لا يفنى ؛ قاله الحسن(٦).
وقال قتادة :" الباقي بعد خلقه "، وروي عنه أنه قال :" الصَّمد الدائم " (٧).
(٢) أخرجه ابن جرير ١٢/٧٤٣.
(٣) أخرجه أحمد٥/١٣٣، والترمذي ٥/٤٢١ ح٣٣٦٤، كتاب التفسير، باب ومن سورة الإخلاص، وأخرجه الثعلبي ١٠/٣٣٤، ورواه الترمذي في الموضع السابق عن أبي العالية مرسلاً، قال :" وهذا أصح ".
(٤) هو أبو سعد الصّاغاني أو الصَّغَّانيُّ كما في طبعة دار هجر٢٤/٧٤٣، وهو محمد بن ميَسَّر- على وزن محمد- الجعفي البلخي أبو سعيد الضرير، نزيل بغداد، متروك الحديث روى عن هشام بن عروة وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم انظر ميزان الاعتدال ٤/٥٢، وتهذيب التهذيب ٩/٤٨٤، والتقريب ص ٥٠٩، رقم (٦٣٤٤ )
(٥) انظر : تفسير ابن عطية ١٦/٣٨٣، والسمعاني ٦/٣٠٤، وأضواء البيان ٢/١٨٦.
(٦) أخرجه عبد الرزاق ٣/٤٧٥ [ ط محمود ]، وابن جرير ١٢/٧٤٤.
(٧) أخرجه ابن جرير ١٢/٧٤٤.
وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة أن النبي - ﷺ - نظر إلى القمر فقال :" يا عائشة ! تعوذي بالله من شره ؛ فإنه الغاسق إذا وقب "، وروي من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أن الغاسق النجم " (١). وقال ابن زيد : هو الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولاً آخر، ثم فسروا وقوبه بسكونه. قال ابن قتيبة : ويقال الغاسق القمر إذا كسف واسود، ومعنى : دخل في الكسوف. وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله - ﷺ - لا يعارض بقول غيره، وهو لا يقول إلا الحق، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره، وقد قال الله تعالى :(٢)، فالقمر آية الليل، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل، فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته، والدليل مستلزم للمدلول، فإذا كان شر القمر موجوداً فشر الليل موجود، وللقمر من التأثير ما ليس لغيره فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى، ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى :" هو مسجدي هذا " (٣) مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعاً.
(٢) سورة الإسراء : الآية ١٢.
(٣) أخرجه مسلم ١/١٠١٥ ح١٣٩٨، كتاب الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - ﷺ -، عن أبي سعيد.
واختاره ابن القيم، وقال :" فالصواب القول الثاني، وهو أن قوله : بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان : إنس وجن، فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضاً يوسوس إلى الإنسي، فالموسوس نوعان : إنس، وجن ؛ فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم، على أن الجني قد يتمثل له ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي... " (١)، واختاره الشوكاني(٢)، والسعدي(٣)، وابن عاشور(٤).
القول الثاني : أن المعنى : الذي يوسوس(٥) في صدور الناس ؛ جنِّهم وإنسهم، وهذا قول الفراء، حيث قال :" فالناس هاهنا وقعت على الجِنّة والناس، كقولك : يوسوس في صدور الناس : جنتِهم وناسهم، وقد قال بعض العرب وهو يحدِّث : جاء قوم من الجن فوقفوا فقيل : من أنتم ؟ فقالوا : أُناس من الجن، وقد قال الله – جل وعزّ – (٦)، فجعل النَّفر من الجن، كما جعلهم من الناس، فقال – جلّ وعز – :(٧)، فسمَّى الرجال من الجن والإنس، والله أعلم " (٨).
وعلى هذا القول يكون الوسواس موسوساً للجن، كما يوسوس للإنس(٩).
واختار هذا القول ابن جرير(١٠).
(٢) فتح القدير ٥/٧٦٤.
(٣) تفسيره ص٩٣٨.
(٤) تفسيره ٣٠/٦٣٥.
(٥) الوسْواس : اسم من أسماء الشيطان، أي : ذو الوسواس، والمراد بالوسوسة هنا تحسين الشر وتقبيح الخير. انظر : تفسير ابن عطية ١٧/٣٨٨، والسعدي ص٩٢٢.
(٦) سورة الجن : الآية ١.
(٧) سورة الجن : الآية ٦.
(٨) معاني القرآن ٣/٣٠٢، وانظر : الدر المصون ١١/١٦٣.
(٩) زاد المسير ٨/٣٣٦.
(١٠) تفسيره ١٢/٧٥٣.
د - إذا كان للشيخ عدة نصوص في اختيار مسألة معينة، فإني أختار نموذجاً، أو أكثر منها، وأشير إلى بقيتها في الحاشية.
هـ - المقارنة بين اختيارات الشيخ واختيارات غيره من أئمة التفسير، مع الاستدلال لكل قول من الأقوال، وذكر ما يرد عليه من اعتراضات. مبتدأً بالقول الراجح، ما لم يقتض الأمر خلاف ذلك، كأن يكون الراجح الجمع بين الأقوال وحمل الآية على كل ما ذكر فيها.
٧... ٦٣٣، ٦٣٧، ٦٤٣، ٦٤٤، ٦٤٥، ٦٤٨
(سورة العلق)
١... ٦٤٣
١٤... ٤٩٥
-... ١٥-١٦... ٤٨٩
(سورة البينة)
١... ٦٥٠، ٦٥١، ٦٥٢، ٦٥٣، ٦٥٤، ٦٥٥، ٦٥٦
٢... ٤٣٩، ٦٥٤، ٦٥٥
٣... ٤٣٩
٤... ٦٥١، ٦٥٢، ٦٥٦، ٦٥٨، ٦٦١
٥... ٤١١
(سورة العاديات)
٦... ٥٣٥
(سورة التكاثر)
١... ٦٦٤، ٦٦٦
-... ٣-٤... ٦٦٤
٥... ٧٣، ٦٦٣، ٦٦٤، ٦٦٥، ٦٦٧
٦... ٧٣، ٦٦٣، ٦٦٦، ٦٦٧
٧... ٦٦٣، ٦٦٤
٨... ٦٦٤، ٦٦٦
(سورة العصر)
- -... ١-٣... ٦٣٨، ٦٣٩
(سورة قريش)
١... ٣٣٧
(سورة الماعون)
٤... ٦٨، ١٠٠، ٦٦٨
٥... ٥٧، ٦٨، ٦٦٨، ٦٧٠، ٦٧٢
(سورة الكافرون)
١... ٤١٣، ٦٧٤، ٦٧٥، ٦٨١، ٦٨٣، ٦٩١، ٦٩٤
٢... ٤١٣، ٦٠١، ٦٧٤، ٦٧٥، ٦٧٦، ٦٧٨، ٦٨٠، ٦٨١، ٦٨٢، ٦٨٣، ٦٨٤، ٦٨٥، ٦٨٦، ٦٨٨، ٦٨٩، ٦٩٠
٣... ٤١٣، ٦٠١، ٦٧٤، ٦٧٥، ٦٧٦، ٦٨٠، ٦٨١، ٦٨٢، ٦٨٣، ٦٨٤، ٦٨٥، ٦٨٦، ٦٨٧
٤... ٦٧٤، ٦٧٥، ٦٧٦، ٦٧٧، ٦٧٨، ٦٨١، ٦٨٢، ٦٨٣، ٦٨٤، ٦٨٥، ٦٨٦، ٦٨٧
٥... ٦٧٤، ٦٧٥، ٦٧٦، ٦٨٠، ٦٨٢، ٦٨٣، ٦٨٤، ٦٨٥، ٦٨٦، ٦٨٧
٦... ٥١، ٦٧٤، ٦٩١، ٦٩٢، ٦٩٣
(سورة النصر)
١... ٦٣١
(سورة المسد)
١... ٣٣٤
٣-٤... ٥٨٠
(سورة الإخلاص)
١... ٦٩٧، ٧٠٢
٢... ٥٢، ٧٢، ٦٩٦، ٦٩٧، ٦٩٨، ٦٩٩، ٧٠٠، ٧٠٢، ٧٠٣
٣... ٧٠٢
(سورة الفلق)
١... ٧٠٤، ٧٠٦
٣... ٦١، ٧٠٩، ٧١١
(سورة الناس)
٥... ٥٠، ٥٤، ٦٠، ٧١٥، ٧١٧، ٧١٨، ٧٢١
٦... ٥٠، ٥٤، ٦٠، ٧١٥، ٧١٦، ٧١٧، ٧١٨، ٧١٩، ٧٢١، ٧٢٢
++++
فهرس القراءات القرآنية
القراءة برواية حفص... القراءة الأخرى... رقم الآية... رقم الصفحة
(سورة البقرة)
﴿ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾... ( من حيث أفاض الناسي )... ١٩٩
(سورة مريم)
٣٤... ٩٧
(سورة الزمر)
( والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به )... ٢٨٣
(سورة ق)
( وجاءت سكرة الحق بالموت )... ١٩
(سورة الذاريات)
( وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين )... ٥٦... ٤١٥
(سورة الرحمن)
٦٧، ٤٣٥، ٤٣٦
(سورة الواقعة)
( ما يمسُّه )... ٧٩... ٤٤٥
(سورة القلم)
( في أيكم المفتون )... ٦... ٦٧، ٤٨٨، ٤٩٣
تكشفُ، يَكْشِف، نَكْشِف... ٤٩٩
(سورة الإنسان)
( يَشْرَبُها )... ٥٤٦
(سورة الأعلى )
( سبحان ربي الأعلى )... ١... ٥٦١
(سورة التين)
( أسفل السافلين )... ٥... ٦٣٩
+++++
فهرس الأحاديث