ثم إني أُثني بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذه المنارة العلمية الكبيرة، التي احتضنتنا في معاهدها، وكلياتها العامرة، صغاراً وكباراً.
كما أشكر كلَّ من أعانني في إعداد هذا البحث بأي وجه كان، وأسأل الله تعالى أن يجزيهم عني أحسن الجزاء، وأخص بالشكر والعرفان المشرف على هذا البحث فضيلة الدكتور ناصر بن محمد الحميد، على متابعته لي في جميع مراحل هذا البحث، بالتوجيهات الكريمة، والتصويبات السديدة، كل ذلك بتواضع جمَّ، وصدر رحب.
فجزاه الله عني خير الجزاء.
وأخيراً أسأل الله أن يحسن القصد، ويصلح العمل، ويتجاوز عن الزلل، إنه قريب مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية
هناك مئاتُ التراجم لهذا العلَم الكبير، مفردةٌ وغير مفردة، مطوَّلة، ومختصرة، بالعربية، وغيرها.
ابتدأت في حياته، ومازالت تترى إلى يومنا هذا(١).
وإلى جانب ذلك لم يزل أهلُ العلم ينهلون من بحر علمه الغزير، ويغرفون من زُلال فقهه العذب النَّمير(٢)، إلى هذه الساعة، وإلى ما شاء الله.
(٢) النَّمير : الطيب، الناجع في الرِّي. انظر : المعجم الوسيط ٢/٩٥٤ مادة (نمر).
القول الأول : أنهم لا يسجدون، والمعنى : وكثير من الناس أبى السجود، فحقَّ عيله العذاب لتركه السجود ؛ وهذا قول الفراء(١)، والواو على هذا استئنافية(٢) ؛ وهذا قول الجمهور.
واختاره السمعاني(٣) (٤)، والواحدي(٥)، وابن جُزي(٦)، وابن كثير(٧)، وابن القيم، والقاسمي(٨)، وابن عاشور(٩).
قال ابن القيم :" فالذي حق عليه العذاب : هو الذي لا يسجد له سبحانه وهو الذي أهانه بترك السجود، وأخبر أنه لا مكرم له، وقد هان على ربه ؛ حيث لم يسجد له " (١٠).
وشيخ الإسلام – كما تقدم – يرى أن كلا القولين صحيح، والمعنيان يمكن أن يحملان على صنف واحد، لكنْ هذا مرادُ الآية.
القول الثاني : أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلهم ؛ قاله مقاتل(١١)، ومجاهد(١٢)، والواو هنا عاطفة(١٣)، واختاره ابن جرير(١٤)، والبغوي(١٥).
(٢) تفسير ابن عطية ١١/١٨٦.
(٣) هو أبو المظفَّر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد المروزي السمعاني الشافعي التميمي، المفسر المحدث الفقيه، من مؤلفاته : تفسير السمعاني، والانتصار لأصحاب الحديث، توفي سنة ٤٨٩هـ بمرو. انظر : طبقات الشافعية للأسنوي ١/٣٢١ ترجمة رقم (٦٠٣)، وطبقات الداوودي ٢/٣٣٩ ترجمة (٦٥١).
(٤) تفسيره ٣/٤٢٨.
(٥) الوسيط ٣/٢٦٢.
(٦) تفسيره ٢/٥٣.
(٧) تفسيره ٣/٢٢١.
(٨) تفسيره ١٢/١٥.
(٩) تفسيره ١٧/٢٢٧.
(١٠) كتاب الصلاة ص١٨٠.
(١١) ذكره عنه ابن الجوزي ٥/٢٨٥.
(١٢) أخرجه ابن جرير ٩/١٢٢، وعزاه في الدر ٤/٦٢٦ أيضاً لعبد بن حميد وابن المنذر.
(١٣) ابن عطية ١١/١٨٦.
(١٤) تفسيره ٩/١٢٢.
(١٥) تفسيره ٣/٢٧٩.
القول الثاني : أن المراد بالنكاح في الآية الوطء، والمعنى : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وبه قال ابن عباس - رضي الله عنهما -(١) وسعيد بن جبير، وعكرمة(٢)، ومجاهد، وابن زيد(٣) (٤).
قال يزيد بن هارون(٥) :" إن جامعها وهو مستحلٌّ فهو مشرك، وإن جامعها وهو مُحَرِّمٌ فهو زان " (٦).
قال ابن كثير :" هذا خبر من الله – تعالى – بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك
أي : عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد بتحريمه " (٧).
(٢) هو عكرمة بن عبد الله البربري المدني، أبو عبد الله، مولى ابن عباس، تابعي، كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، أخرج له البخاري في الصحيح، توفي سنة ١٠٥هـ. انظر : ميزان الاعتدال ٣/٩٣، وتهذيب التهذيب ٧/٢٦٣.
(٣) هو أبو الشعثاء، جابر بن زيد الأزدي ثم الجَوْفي البصري، مشهور بكنيته، ثقة فقيه، توفي سنة ثلاث وتسعين، وقيل : ثلاث ومائة. انظر : التاريخ الكبير ٢/٢٠٤، وتقريب التهذيب ص١٣٦.
(٤) أخرجه عنهم ابن جرير ١٧/١٥٧ – ١٥٩ [ ط التركي ]، وانظر : الدر ٥/٣٩.
(٥) هو يزيد بن هارون بن زاذان بن ثابت السلمي بالولاء الواسطي، أبو خالد، من حفاظ الحديث الثقات، ولد بواسط سن ١١٨هـ، وتوفي بها سنة ٢٠٦هـ. انظر : تاريخ بغداد ١٤/٣٣٧ ترجمة رقم (٧٦٦١)، وتهذيب التهذيب ١١/٣٦٦.
(٦) ذكره عنه البغوي في تفسيره ٣/٣٢٢.
(٧) تفسيره ٣/٢٧٣.
(١) فإنها ليست للتخصيص والتقييد، بل لتحقيق الطيران المدلول عليه بطائر، فكذلك قوله : لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي، ومن تأمل الآية علم أنه لم يقصد بها إلا ذلك " (٢).
واستحسن أبو حيان أن يُجعل مفعولاً و بدلاً منه، ولفظ الجلالة فاعل، والتقدير : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي : الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم(٣)، وفيه تكلّف(٤).
القول الثاني : أن الاستثناء في الآية منقطع(٥)، فالله – جلَّ وعلا – غير داخل في
، ويَرد على هذا القول إشكال، وهو أن المستثنى في الآية – لفظ الجلالة - مرفوع(٦)، وحكمه على هذا الرأي النَّصب، وقد أجاب عنه أصحابُ هذا القول بأجوبة منها : أنه جاء على لغة تميم ؛ فإنهم يجيزون الرفع على البدليَّة هنا(٧)، وبه قال الزمخشري(٨).
وتعقَّبه ابن جزي بأن القرآن أُنزل بلغة الحجاز، لا بلغة تميم(٩).
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وهو أن الاستثناء متصل، والتقدير لا يعلم أحدٌ الغيب إلا الله، كما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه، وذلك لسلامة هذا القول من الاعتراض الصحيح.
سورة النمل : الآية ٨٠
(٢) بدائع الفوائد ٣/٥١ – ٥٢، وانظر : تفسير ابن جزي ٢/١٣٥، ودراسات لأسلوب القرآن الكريم ١/٣٤٣.
(٣) تفسيره ٧/٨٧.
(٤) واستغربه السمين في الدر المصون ٨/٦٣٣، وصححه الجمل في الفتوحات الإلهية ٥/٤٥٨.
(٥) الاستثناء المنقطع هو الذي لا يكون داخلاً في الأول، بل يكون في حكم المستأنف، وتقدَّر ( إلا ) فيه بلكن، انظر : ضياء السالك ٢/١٨٦.
(٦) قرأ العشرة بالرفع.
(٧) أي أنه بدل من التي هي في موضع الفاعل ليعلم، انظر : دراسات لأسلوب القرآن الكريم ١/٣٣٠.
(٨) الكشاف ٣/١٤٩، وله في اختيار المذهب التميمي هنا تأويل.
(٩) تفسيره ٢/١٣٥، وضعّفه أيضاً ابن القيم في بدائع الفوائد ٣/٥١.
٢ - اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له، والعمل له، والتوجه إليه، وعلى هذا فالراجح من الأقوال ما وافق استعمالَ القرآن و معهودَه(١).
القول الثاني : أن معنى قوله تعالى : إلا هو أو إلا ذاته، ويروى عن مجاهد(٢)، والضحاك(٣)، واختاره أبو عبيدة(٤) (٥).
قال البقاعي(٦) :" ولعله عبر عن الذات بالوجه ليشمل ما قصد به من العمل الصالح مع ما هو معروف من تسويغه لذلك بكونه أشرف الجملة، وبكون النظر إليه هو الحامل على الطاعة بالاستحياء وما في معناه " (٧).
(٢) تفسير الثعلبي ٧/٢٦٧ وقد ذكره بلا إسناد، ولعل القول الأول عنه أصح.
(٣) أورده عنه الماوردي ٤/٢٧٣، واختاره الفراء ٢/٣١٤، والزجاج ٤/١٥٨، والبيضاوي ٢/٢٠٢، والشوكاني ٤/٢٦٤، والألوسي ٢٠/١٣٠، وابن عاشور٢٠/١٩٧.
(٤) هو أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى البصري، مولى بني تيم، من كبار علماء العربية، له مجاز القرآن، وغريب الحديث، توفي عام ٢١٠هـ وقيل : غير ذلك. انظر : طبقات المفسرين للداودي ٢/٢٢٦، وتاريخ بغداد ١٣/٢٥٢.
(٥) مجاز القرآن ٢/١١٢.
(٦) هو إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط بن علي بن أبي بكر البقاعي، أبو الحسن، برهان الدين، مؤرخ أديب، ولد سنة ٨٠٩هـ، وتوفي بدمشق سنة ٨٨٥هـ، من مؤلفاته : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور. انظر : الضوء اللامع ١/١٠١، وطبقات المفسرين للأدنه وي ص٣٤٨.
(٧) تفسيره نظم الدرر ١٤/٣٨٢، وانظر : تفسير الألوسي٢٠/١٣٠.
القول الثالث : أن هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر النبي - ﷺ - بالقتال، ثم نسخت بقوله تعالى :(١) ؛ وهذا قول قتادة(٢)، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو الجزية أو السيف.
والراجح - والله تعالى أعلم - هو القول الأول، وهو أن الآية محكمة غير منسوخة لعدم الدليل على نسخها، وأن المراد بالذين ظلموا هم أهل الحرب، واختاره ابن جرير(٣)، والنحاس(٤).
قال ابن جرير :" وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال : عني بقوله : إلا الذين امتنعوا عن أداء الجزية، ونصبوا دونها الحرب... وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ؛ لأن الله تعالى ذكره أذن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب بغير الذي هو أحسن، بقوله : فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلا بالتي هي أحسن غير الذين أذن لهم بذلك فيهم، وأنهم غير المؤمن ؛ لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلا في غير الحق ؛ لأنه إذا جاء بغير الحق فقد صار في معنى الظلمة في الذين خالف فيه الحق، فإذا كان تبين ألا معنى لقول من قال : عنى بقوله : أهل الإيمان منهم، وكذلك لا معنى لقول من قال : أنزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال وزعم أنها منسوخة ؛ لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل.
وقد بينّا في غير موضع من كتابنا أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل " (٥).
وقال النحاس :" وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله - عز وجل - لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول " (٦).
(٢) تفسير ابن جرير ١٠/١٥٠، وابن أبي حاتم ٩/٣٦٨، واختاره الزجاج ٤/١٧٠، وابن عطية ١٢/٢٢٩، وابن جزي ٢/١٦٠.
(٣) تفسيره ١٠/١٥٠.
(٤) الناسخ والمسوخ ٢/٥٧٧.
(٥) تفسير ابن جرير ١٠/١٥٠.
(٦) الناسخ والمنسوخ للنحاس ٢/٥٧٧.
قال - رحمه الله – عند هذه الآية :" فآيات الله هي القرآن، إذ كان نفس القرآن يدل على أنه منَزل من الله، فهو علامة ودلالة على منَزله، قال غير واحد من السلف : هي السنة، وقال أيضاً طائفةٌ كمالك وغيره : هي معرفة الدين والعمل به، وقيل غيرُ ذلك، وكل ذلك حق ؛ فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعليم الحق دون الباطل، وهذه السنة التي فرَّق بها بين الحق والباطل، وبين الأعمال الحسنة والقبيحة والخير والشر، وقد جاء عنه - ﷺ - أنه قال :" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " (١) " (٢).
وقال – رحمه الله – :" وقد قال غير واحد من العلماء منهم يحيى بن أبي كثير(٣) وقتادة والشافعي وغيرهم :( الحكمة ) هي السنة لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب : القرآن، وما سوى ذلك مما كان للرسول يتلوه هو السنة " (٤).
الدراسة :
اختلف المفسرون في المراد بـ( الحكمة ) في الآية على أقوال :
(٢) مجموع الفتاوى ١٩/١٧٥.
(٣) هو الإمام الحافظ أبو نصر يحيى بن صالح الطائي مولاهم اليمامي، أخرج له الستة، توفي سنة ١٣٢هـ. انظر : سير أعلام النبلاء ٦/٢٧، وتقريب التهذيب ص٥٩٦.
(٤) مجموع الفتاوى ١/٦، وانظر : المصدر السابق ٣/٣٦٦، ٥/١٦٢، ١٩/٨٢.
حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - أنه قال في هذه الآية : ، قال :" هؤلاء كلهم بمنْزلة واحدة، وكلهم في الجنة " (١).
وحديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول :
" يعني الظالم يؤخذ منه في مقامه ذلك، فذلك الهمُّ والحزن
قال : يحاسب حساباً يسيراً قال : الذين يدخلون الجنة بغير حساب " (٢).
٢ – ومما يدل على أن الظالم لنفسه المذكور في الآية من المسلمين قوله تعالى في الآية بعدها (٣)، فعمَّ بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة(٤).
٣ – ما أشار إليه شيخ الإسلام من أن الأصناف الثلاثة المذكورين في الآية كلهم من المصطفين من عباده(٥)، كما قال تعالى : ، ويؤكد ذلك أنه أتى بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولاً(٦).
(٢) أخرجه أحمد ٥/١٩٤، ١٩٨، والحاكم ٢/٤٢٦، وابن جرير ١٠/٤١٤، وابن أبي حاتم ١٠/٣٢٨١ والبغوي في تفسيره ٣/٥٧١، وانظر : الدر المنثور ٥/٤٧٢، وطريق الهجرتين ص٣٤٣، والحديث في سنده اختلاف، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص٤٨٩، وانظر التعليق على الحديث في مسند الإمام أحمد ط مؤسسة الرسالة ٣٦/٢٨.
(٣) سورة فاطر : الآية ٣٣.
(٤) استدل بذلك ابن جرير ١٠/٤١٤، وانظر : قواعد التفسير ٢/٦١٧.
(٥) تقدم ذكر قول شيخ الإسلام، وانظر : معاني القرآن للزجاج ٤/٢٦٨.
(٦) ذكر ذلك ابن القيم في طريق الهجرتين ص٣٦١.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي :" وتعيين القرية، لو كان فيه فائدة لعينها الله، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا الباب تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار ؛ ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح الوقوف مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها، ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها " (١).
المسألة الثانية : هل الرسل المذكورون في الآية مرسلون من عند الله – تعالى – أم من عند المسيح ؟
... اختلف المفسرون في هذه المسألة على قولين :
... القول الأول : أن هؤلاء الرسل مرسلون من عند الله تعالى ؛ وهذا القول مروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما –، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه(٢)، واختاره ابن عطية(٣)، والقرطبي(٤)، وأبو حيان(٥)، وابن كثير(٦)، وابن عاشور(٧).
وقد استدل شيخ الإسلام لهذا القول بعدة أدلة – كما تقدم – تابعه على بعضها بعض المفسرين، وهي كما يلي :
١ – أن من المعلوم عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار، وهذه القرية أهلك الله أهلها بعذاب من السماء فدل ذلك على أن الرسل المذكورين كانوا قبل موسى عليه السلام.
٢ – أن الله تعالى لم يذكر في القرآن رسولاً أرسله غيره، وإنما ذكر الرسل الذين أرسلهم هو، وهنا قال تعالى :(٨) فظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى هو الذي أرسلهم.
(٢) أخرجه عنهم ابن جرير ١٠/٤٣١.
(٣) تفسيره ١٣/١٩٣.
(٤) تفسيره ١٥/١٤.
(٥) تفسيره ٧/٣١٣.
(٦) تفسيره ٣/٥٧٤.
(٧) تفسيره ٢٢/٣٦٠.
(٨) سورة يس : الآية ١٤.
ومما يدل على ذلك : أن قصة الذبيح كانت بمكة والنبي - ﷺ - لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي - ﷺ - للسادن(١) :" إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي "، ولهذا جعلت منى محلاً للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن، ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة لا من أهل الكتاب ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام فهذا افتراء ؛ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك الجبل، وربما جعل منسكاً كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم، وما حوله من المشاعر، وفي المسألة دلائل أخرى غير ما ذكرناه " (٢).
الدراسة :
اختلف المفسرون في تعيين الذبيح من ولد إبراهيم - عليه السلام -، هل هو إسماعيلُ أو إسحاق، وهذه مسألة مشهورة بين المفسرين وغيرهم، من المتقدمين والمتأخرين، أطالوا فيها الكلام، وأكثروا من الاستدلال، والنقاش، بل أُلِّف فيها عدة مؤلفات(٣).
(٢) مجموع الفتاوى ٤/ ٣٣١ – ٣٣٦، وانظر : منهاج السنة ٥/٣٥٣ – ٣٥٥، والرد على المنطقيين ص٥١٧.
(٣) ومنها، ما يلي :
١ - مؤلف لشيخ الإسلام ابن تيمية، ذكره في المنهاج ٥/٣٥٥، وذكره ابن عبد الهادي في العقود الدرية ص٦٠، ولا أعلم هل هو موجود أو مفقود.
٢ - تبيين الصحيح في تعيين الذبيح، لابن العربي، ذكره في تفسيره ٤/١٦١٧.
٣ - القول الصحيح في تعيين الذبيح، للسبكي، موجود في مكتبة عارف حكمت في المدينة.
٤ - القول الفصيح في تعيين الذبيح، للسيوطي، مطبوع بتحقيق إبراهيم الحازمي.
٥ - القول الصحيح في تعيين الذبيح، للعاني، مطبوع.
٦ - الرأي الصحيح في بيان من هو الذبيح، للفراهي، مطبوع.
٧ - القول الصحيح في تعيين الذبيح، لإبراهيم الحازمي، مطبوع.
والقول الثاني – وعليه الأكثرون - أن كلاً من النفسين : الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، وأما التي توفيت وفاة الموت فتلك قسم ثالث ; وهي التي قدمها بقوله : وعلى هذا يدل الكتاب والسنة ; فإن الله قال :; فذكر إمساك التي قضي عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها بالنوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا إرسال ولا ذكر في الآية التقاء الموتى بالنيام.
والتحقيق أن الآية تتناول النوعين ; فإن الله ذكر توفيتين : توفي الموت وتوفي النوم، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه يمسك كل ميتة سواء ماتت في النوم أو قبل ذلك ; ويرسل من لم تمت، وقوله : يتناول ما ماتت في اليقظة وما ماتت في النوم ; فلما ذكر التوفيتين ذكر أنه يمسكها في أحد التوفيتين، ويرسلها في الأخرى ; وهذا ظاهر اللفظ ومدلوله بلا تكلف.
وما ذكر من التقاء أرواح النيام والموتى لا ينافي ما في الآية ; وليس في لفظها دلالة عليه ; لكن قوله : يقتضي أنه يمسكها لا يرسلها كما يرسل النائمة ; سواء توفاها في اليقظة أو في النوم ; ولذلك قال النبي - ﷺ - :" اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها ; لك مماتها ومحياها ; فإن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين "(١)، فوصفها بأنها في حال توفي النوم إما ممسكة وإما مرسلة " (٢).
الدراسة :
(٢) مجموع الفتاوى ٥/٤٥٢، وانظر : ٤/٢٨٩، ٩/٢٨٩، وجامع المسائل ٤/٢٣٦، والروح لابن القيم ص٢٨.
واختاره أيضاً أبو حيان(١)، واستدل له بقوله تعالى : أي : أستجب دعاءكم(٢)، وهذا لا يمنع حملَ الدعاء هنا على العبادة، فيقال : أخلصوا العبادة لي أجب دعاءكم، ولا داعي لتأويل الاستجابة بالإثابة كما قال بعض المفسرين(٣).
والأظهر – والله أعلم – ما ذهب إليه شيخ الإسلام و أن الدعاء المذكور في الآية يتضمن النوعين، دعاء العبادة، ودعاء المسألة ؛ لأنه إذا احتمل اللفظ معاني عِدّة ولم تمتنع إرادةُ الجميع حمل عليها(٤)، ولكنْ حَمْله على معنى العبادة هنا أرجح، وهما متلازمان، وبه قال الشنقيطي ؛ لأن دعاء الله من أنواع عبادته(٥)، واختاره ابن عاشور(٦).
(٢) انظر : تفسير أبي حيان ٧/٤٦٤.
(٣) انظر : الكشاف للزمخشري ٣/٣٧٦.
(٤) قواعد التفسير ٢/٨١٣.
(٥) أضواء البيان ٧/٩٦.
(٦) تفسيره ٢٤/١٨٢.
واختاره أيضاً ابن عاشور، وقال :" والممنون : مفعول من المنّ، وهو ذكر النعمة للمنعم عليه بها، والتقدير : غير ممنون به عليهم، وذلك كناية عن كونهم أُعطُوه شكراً لهم على ما أسلفوه من عمل صالح، فإن الله غفور شكور، يعني : أن الإنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء، فلا يُحسون بخجل العطاء، وهو من قبيل قوله تعالى :(١)، فأجرهم بمنْزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطه إياهم أحد وذلك تفضل من الله " (٢).
وقد ردَّ هذا القول شيخ الإسلام - كما تقدم -، وبيَّن أن الله تعالى هو المنّان على خلقه المتفضل عليهم بجميع النِّعم(٣).
والراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه من أن المراد بقوله تعالى : غير مقطوع ولا منقوص، لوروده عن السلف، ودلالة اللغة عليه، ولأنه يمكن أن تحمل عليه الأقوال الثلاثة، وأما القول الرابع فهو مردود كما تقدم.
سورة فصلت : الآية ٥٣
قال تعالى :(٤).
رجح شيخ الإسلام أن الضمير في قوله تعالى : عائد إلى القرآن.
قال – رحمه الله – عند هذه الآية :" والضمير في ذلك عائد إلى القرآن عند المفسرين والسلف وعامة العلماء، كما يدل على ذلك القرآن بقوله :(٥).
وقد قيل : إن الضمير عائد إلى الله، والصواب الأول، كما قال : وهذا هو القرآن " (٦).
وقال – رحمه الله – أيضاً :" والضمير عائد على القرآن، كما قال تعالى : الآية.
(٢) تفسيره ٢٤/٢٤١.
(٣) انظر : تفسير ابن كثير ٤/١٠٠.
(٤) سورة فصلت : الآية ٥٣.
(٥) سورة فصلت : الآيتان ٥٢ – ٥٣.
(٦) الجواب الصحيح ٦/٣٧٨.
قال ابن كثير بعد أن ضعف هذا القول :" ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وُجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته - رضي الله عنهم - أجمعين " (١).
القول الثالث : أن معنى الآية : لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجراً إلا أن تودَّدوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة ؛ وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما -(٢)، وهو ضعيف(٣)، وبه قال الحسن(٤)، واختاره النحاس، وقال عنه :" من أجمعها وأبينها، وهذا قول حسن، ويدل على صحته الحديث المسند... " (٥).
و على هذا القول بمعنى : القُرْبَة، كالزُلْفَة والزُلْفَى، ونصر هذا القول الزمخشري(٦)، والثعلبي(٧).
القول الرابع : أن المعنى : لا أسألكم على ما جئتكم به أجراً إلا أن تصلوا قراباتكم، وروي عن عبدالله بن القاسم(٨) (٩).
(٢) أخرجه أحمد ١/٢٦٨، والحاكم ٢/٤٤٣، وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن جرير ٢٠/٥٠٠ [ ط التركي ]، والنحاس في الناسخ والمنسوخ ٢/٦٢٠، واحتج به.
(٣) ضعفه الحافظ في الفتح ٨/٧١٨، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند ٤/١٣٤.
(٤) تفسير ابن جرير ٢٠/٥٠٠ – ٥٠١، وصححه الحافظ في الفتح ٨/٧١٨.
(٥) الناسخ والمنسوخ ٢/٦١٩ - ٦٢٠.
(٦) تفسيره ٣/٤٠٢.
(٧) تفسيره ٨/٣١٠.
(٨) هو عبد الله بن القاسم روى عن ابن أبزى، وروى عنه عبد الله بن شوذب. انظر : التاريخ الكبير ٥/١٧٤، والتقريب ص٣١٨.
(٩) تفسير ابن جرير ٢٠/٥٠١ [ ط التركي ].
استثناء منقطع، أي : من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة، منهم الشافع، ومنهم المشفوع له " (١).
وقال :" وقوله : استثناء منقطع في أصح القولين " (٢).
وقال أيضاً :" وقد ذكر البغوي، وأبوالفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله : قولين : أحدهما : أن المستثنى هو الشافع، ومحل ( من ) الرفع، والثاني : هو المشفوع له ".
ثم ذكر قول البغوي وأبي الفرج، ثم قول مجاهد، وقتادة، ثم قال :" قلت : كلا القولين معناه صحيح، لكن التحقيق في تفسير الآية : أن الاستثناء منقطع، ولا يملك أحد من دون الله الشفاعة مطلقاً، لا يستثنى من ذلك أحد عند الله ؛ فإنه لم يقل : ولا يشفع أحد، ولا قال : لا يشفع لأحد، بل قال : ، وكل من دعي من دون الله لا يملك الشفاعة البتة ".
ثم شرع – رحمه الله – في الرد على من قال : إن الاستثناء متصل، وذكر بطلانه من وجوه :
١ - أنه يخرج شفاعةَ من لم يُدعَ من دون الله، وهذا المعنى لا يليق بالقرآن، وسبب نزول الآية يبطله(٣).
٢ - أن قوله تعالى : يتناول كل معبود من دونه، فإذا قيل إنه استثنى الملائكة والأنبياء كان في هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم إذا كانوا صالحين، والقرآن كله يبطل هذا المعنى، كما قال تعالى :
(٤).
٣ - أن القرآن إذا نفى الشفاعة من دونه نفاها مطلقاً.
(٢) مجموع الفتاوى ٢٧/٢٨١.
(٣) روي أن النَّضْر بن الحارث ونفراً معه قالوا : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنَزلت الآية. انظر : زاد المسير ٧/١٠٩.
(٤) سورة النجم : الآية ٢٦.
وما ذهب إليه ابن جرير ومن وافقه من القول بالعموم، وعدم التخصيص بقوم معيينين هو الأظهر، لعدم الدليل على التخصيص، وتحمل أقوال السلف في تعيينهم على أنهم أرادوا التمثيل كما قال أبوحيان، لا سيما وأنها غير متفقة، والله أعلم.
سورة الفتح : الآية ٢٧
قال تعالى :(١).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بقوله تعالى : تحقيق الدخول، وليس الشك في وقوعه.
قال – رحمه الله – في سياق حديثه عن الاستثناء في الإيمان :" وليس من ضرورة التعليق - يعني بالمشيئة – الشك، بل هذا بحسب علم المتكلم فتارة يكون شاكاً وتارة لا يكون شاكاً ; فلما كان الشك يصحبها كثيراً لعدم علم الإنسان بالعواقب ظن الظان أن الشك داخل في معناها وليس كذلك ؛ فقوله : لا يتصور فيه شك من الله ; بل ولا من رسوله المخاطب والمؤمنين، ولهذا قال ثعلب(٢) : هذا استثناء من الله وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون. وقال أبو عبيدة وابن قتيبة إن بمعنى إذ، أي : إذ شاء الله ومقصوده بهذا تحقيق الفعل بـ كما يتحقق مع إذْ... ".
ثم قال :" فطائفة من الناس فروا من هذا المعنى وجعلوا الاستثناء لأمر مشكوك فيه، فقال الزجاج : أي : أمركم الله به، وقيل : الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، أي : لتدخلنه آمنين فأما الدخول فلا شك فيه. وقيل : لتدخلن جميعكم أو بعضكم ؛ لأنه علم أن بعضهم يموت فالاستثناء لأنهم لم يدخلوا جميعهم.
(٢) هو العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية، أبو العباس، أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم البغدادي، من مؤلفاته : الفصيح، وإعراب القرآن، وتوفي سنة ٢٩١هـ. انظر : تذكرة الحفاظ ٢/٦٦٦، وشذرات الذهب ٢/٢٠٧.
ثم قال – رحمه الله - :" فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام " (١).
الدراسة :
اختلف المفسرون في حقيقة إسلام الأعراب(٢) المذكورين في الآية على قولين :
(٢) قال مجاهد :" أعراب بني أسد بن خزيمة "، وقال قتادة :" أنزلت في حي من أحياء العرب، امتنوا بإسلامهم على نبي الله - ﷺ - فقالوا : أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان "، انظر : ابن جرير ١١/٣٩٩ – ٤٠٠.
واختار هذا القول البيضاوي(١)، وأبوالسعود(٢)، والسعدي(٣)، وابن عاشور(٤).
القول الثاني : أنهما يكتبان عليه كل شيء، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد(٥)، ومجاهد ؛ فقد رُوي عنه أنه قال :" يُكتب على ابن آدم كلُ شيء يتكلم به حتى أنينه في مرضه " (٦)، وروي عن عطاء نحوه(٧)، واختار هذا القول اختاره شيخ الإسلام كما تقدم، وابن جزي(٨)، والذهبي(٩)، وابن كثير(١٠)، والشنقيطي(١١).
واستدل شيخ الإسلام لهذا القول بثلاثة أدلة :
١ - عموم الآية ؛ فإن قوله تعالى : نكرة في سياق النفي، فتعمّ(١٢).
٢ - أنه إذا قيل إن الملكين لا يكتبان إلا الخير أو الشر، فإنه يحتاج أن يعرف الكاتبُ ما أمر به وما نهي عنه، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.
٣ - أن العبد مأمور أن يقول خيراً أو يصمت، فإذا عدل عن الصمات إلى فضول القول الذي ليس بخير كان هذا عليه.
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وأن الذي يكتب على الإنسان هو الخير والشر، وأما ما سوى ذلك فلا يكتب أو يكتب ثم يمحى.
(٢) تفسيره ٨/١٢٩.
(٣) تفسيره ص٨٠٥.
(٤) تفسيره ٢٦/٣٠٣.
(٥) أخرجه عنهم ابن جرير ١١/٤١٦ – ٤١٧.
(٦) ذكره السيوطي في الدر ٦/١٢٠، وعزاه لابن المنذر، وذكره ابن عبد البر في التمهيد ٢١/٣٨، وعزاه لسُنَيْد، كما ذكره عنه شيخ الإسلام.
(٧) ذكره ابن عبد البر في التمهيد ٢١/٣٨، وعزاه لسُنيد، وانظر : جامع العلوم والحكم ١/٣٣٧.
(٨) تفسيره ٢/٣٦٤.
(٩) سير أعلام النبلاء ٩/٨٤.
(١٠) تفسيره ٤/٢٣٩.
(١١) تفسيره ٧/٦٥١.
(١٢) استدل به شيخ الإسلام كما تقدم، والشنقيطي ٧/٦٥١ وقال :" قوله : نكرة في سياق النفي، زيدت قبلها لفظة فهي نص صريح في العموم" واستدل بالعموم الذهبي في السير ٩/٨٤، وابن كثير ٤/٢٣. وانظر : البحر المحيط ٨/١٢٣.
القول الرابع : قال الواحدي :" ويجوز أن يكون المعنى كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلاً، ويكون الليل اسماً للجنس، وهذا معنى قول سعيد بن جبير عن ابن عباس : كانوا قلَّ ليلةٌ تمر بهم إلا صلوا فيها، وقال مطرف بن الشخير : قلّ ليلة أتت عليهم هجعوها " (١).
وما أثر عن ابن عباس ومطرف قد أدرجه ابن جرير وغيره من المفسرين دليلاً للقول الأول.
وقد ذكره شيخ الإسلام – كما تقدم – وضعفه، وقال :" لأن هجوع الليل محرم ؛ فإن صلاة العشاء فرض ".
والظاهر أن مراد ابن عباس – رضي الله عنهما – ومطرفٍ صلاةُ النافلة في الليل، وليس مطلقَ الصلاة.
والراجح – والله تعالى أعلم – القول الأول، وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين ؛ لأنه ظاهر الآية، ويدل عليه سياقها، حيث وردت في مقام الثناء على المتقين كما رجحه بذلك ابن جرير.
وقد أورد ابن القيم على هذا القول إشكالاً وأجاب عنه فقال :" واستُشْكِلَ هذا بأن نوم نصف الليل وقيام ثلثه، ثم نوم سدسه أحبُّ القيام إلى الله ؛ فيكون وقت الهجوع أكثر من وقت القيام، فكيف يثنى عليهم بما الأفضل خلافه ؟ ".
قال :" وأجيب عن ذلك بأن من قام هذا القيام فزمن هجوعه أقل من زمن يقظته قطعاً ؛ فإنه مستيقظ من المغرب إلى العشاء، ومن الفجر إلى طلوع الشمس، فيبقى ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، فيقومون نصف ذلك الوقت، فيكون زمنُ الهجوع أقلَّ من زمن الاستيقاظ " (٢)....
سورة الذاريات : الآية ٥٦
قال تعالى :(٣).
اختار شيخ الإسلام أن معنى قوله : إلا لآمرهم بعبادتي.
(٢) التبيان ص١٨١.
(٣) سورة الذاريات : الآية ٥٦.
وقد استدل بهذه الآية من يرى عدم مشروعية إهداء القُرَب للأموات، وليس فيها دلالة على ذلك، كما ما قرّره شيخ الإسلام ومن وافقه، وقد اتفق العلماء على مشروعية إهداء القُرب المالية للأموات، وكذلك الدعاء والاستغفار، واختلفوا في الأعمال البدنية من الصلاة والقراءة والحج وغيرها.
فذهب الحنفية والحنابلة إلى مشروعية إهداء جميع القرب للميت، واختاره شيخ الإسلام، كما تقدم.
وذهب المالكية والشافعية إلى عدم مشروعية إهداء الأعمال البدنية.
وذهب آخرون إلى الاقتصار على ما ورد به النص كالصدقة، والحج(١).
والأظهر – والله أعلم - القول الأول، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه، والشروح(٢).
سورة النجم : الآية ٥٦
قال تعالى :(٣).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بالنذير في الآية القرآن والرسول - ﷺ - معاً.
قال – رحمه الله – عند هذه الآية :" قيل هو محمد، وقيل : هو القرآن ؛ فإن الله سمى كلاً منهما بشيراً ونذيراً، فقال في رسول الله :(٤) (٥)، وقال تعالى :(٦)، وقال تعالى في القرآن :
(٧)، وهما متلازمان.
وكل من هذين المعنيين مراد، يقال : هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل والكتب الأولى.
وقوله : أي : من جنسها، أي : رسول من الرسل المرسلين.
الدراسة :
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى : على أقوال ثلاثة :
(٢) انظر : المغني لابن قدامة ٣/٥١٩ – ٥٢٢، وبدائع الصنائع ٢/٢١٢، ومغني المحتاج ٣/٦٩، ومنح الجليل ١/٣٠٦، والروح لابن القيم ص١٤٥ – ١٧٢، وأحكام الجنائز للألباني ص٢١٩.
(٣) سورة النجم : الآية ٥٦.
(٤) سورة الأعراف : الآية ١٨٨.
(٥) مجموع الفتاوى ١٤/٣٠٣، وانظر : ٨/٢٠٩.
(٦) سورة الفتح : الآية ٨.
(٧) سورة فصلت : الآيتان ٣ – ٤.
وقال أيضاً :" وهو بمعنى النهي أبلغ من النهي الصريح، وهذا أحد أوجهٍ ذكروها عن جعل [ في الآية ] ناهية..." (١).
واختار هذا القول – أنه نفي بمعنى النهي – بعض العلماء، كالجصاص(٢) (٣).
القول الثالث : أن المعنى : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به(٤).
وقال البخاري :" – أي : القرآن – لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن " (٥).
قال ابن العربي :" هو صحيح، لكنه عدول عن الظاهر لغير ضرورة عقل ولا دليل سمع " (٦).
القول الرابع : أن المعنى : لا يمس ثوابه إلا المؤمنون(٧).
القول الخامس : أن المعنى : لا يعرف تفسيره إلا من طهره الله من الشرك والنفاق(٨).
القول السادس : أن المعنى : لا يوفق للعمل به إلا السعداء(٩).
المسألة الثالثة : اختلف في المراد بـ على أقوال :
القول الأول : أن المراد الملائكة، وتقدم ذكره عن جمع من السلف، واختاره أبو السعود، وابن عاشور، وتقدم ذكر أقوالهم.
القول الثاني : أن المراد : المطهرون من الشرك(١٠).
(٢) هو أحمد بن علي الرازي الحنفي، المعروف بالجصّاص، من فقهاء الحنفية، من تصانيفه : أحكام القرآن، وشرح مختصر الطحاوي توفي عام ٣٧٠هـ في بغداد. انظر : الأعلام ١/١٧١، ومعجم المؤلفين ٢/٧، وطبقات المفسرين للداودي ١/٥٥.
(٣) أحكام القرآن ٥/٣٠٠، ورجحه لحديث عمرو بن حزم.
(٤) حكاه الفراء ٢/١٢٠.
(٥) ١٣/٥١٧، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى :.
(٦) أحكام القرآن ٤/١٧٨٣.
(٧) ذكره الماوردي ٥/٤٦٤.
(٨) ذكره القرطبي ١٧/١٤٦، وقال ابن القيم :" ودلت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة... "، التبيان ص١٤٣.
(٩) ذكره القرطبي ١٧/١٤٦.
(١٠) ذكره الماوردي ٥/٤٦٤.
اختار شيخ الإسلام أن المراد بقوله تعالى : وأنزلناه من الجبال التي خلق فيها، حيث بيَّن - رحمه الله – في أثناء حديثه عن النُّزول في القرآن وأنواعه أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النُّزول المعروف، وأن هذا هو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب نزولاً إلا بهذا المعنى.
وأورد ما يُروى عن ابن عباس – رضى الله عنهما - أن آدم نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان، والكلبتان، والمنقعة، والمطرقة، والإبرة.
وقال :" هو كذب لا يثبت مثله "، ثم بيَّن نكارة متنه، موضحاً أن هذه الآلات تصنع من حديد المعادن كما هو مشاهد، ثم ما يُصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثمّ حديد موجود يُطرق بهذه الآلات ؟.
ثم أورد حديث ابن عمر – رضى الله عنهما – مرفوعاً :" إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض فأنزل الحديد والماء والنار والملح ". وقال :" حديث موضوع مكذوب " (١).
ثم ذكر أن لفظ النُّزول أشكل على كثير من الناس، حيث قال قُطْرُب – رحمه
الله – :" معناه : جعل نُزُلاً ".
قال :" وهذا ضعيف، فإن النُّزُل إنما يطلق على ما يؤكل، لا على ما يقاتل به، قال الله تعالى :(٢)، والضيافة سميت نزولاً لأن العادة أن الضيف يكون راكباً فينْزل في مكان يؤتى إليه بضيافته فيه فسميت نزولاً لأجل نزوله ".
(٢) سورة الواقعة : الآية ٩٣.
قال تعالى :(١).
رجح شيخ الإسلام أن المراد بالساق في الآية صفة من صفات الله تعالى.
قال - رحمه الله - :" يقال : كشف البلاء أي أزاله، ورفعه، ويقال : كشف عنه ؛ أي : أظهره وبيَّنه، فمن الأول : قوله تعالى :(٢)، وقوله تعالى :(٣)، وقوله تعالى :
(٤)، ومن الثاني : قوله تعالى : ، لم يقل : يوم يكشف الساقَ، وهذا يبيِّن خطأ من قال : المراد بهذه الآية كشفُ الشدة، وأن الشدة تسمى ساقاً، وأنه لو أُريد ذلك لقيل : يوم يكشف عن الشدة، أو يكشف الشدةَ، وأيضاً فيومُ القيامة لا يَكْشف الشدةَ عن الكفار، والرواية في ذلك عن ابن عباس ساقطة الإسناد " (٥).
وقال - رحمه الله - :" إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف ; بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله، ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيئاً كثيراً، وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى : فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات ; للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين.
(٢) سورة النحل : الآية ٥٤.
(٣) سورة المؤمنون : الآية ٧٥.
(٤) سورة الزخرف : الآية ٥٠.
(٥) تلخيص الاستغاثة ص٢٨٨.
قال أبو حيان :" وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها، ويدل عليه قوله بعد (١) " (٢).
والراجح - والله تعالى أعلم - القول الأول لدلالة السياق عليه كما ذكر شيخ الإسلام، ولأنه قول عامة المفسرين.
(٢) تفسيره ٨/٣٨١.
وقد ذكر ابن الجوزي قراءةً تؤيد هذا القول، فقال :" وقرأ أبو عمران الجوني في آخرين ( ومن بناها ) ( ومن طحاها ) ( ومن سواها ) بالنون " (١).
القول الثاني : أنها مصدرية، والتقدير : وبنائها، وطحوها، وتسويتها، أو : وبناء الله إياها، أو وبنيانها، ويروى عن قتادة(٢).
قال الزمخشري عن هذا القول :" وليس بالوجه لقوله :(٣)، وما يؤدي
إليه من فساد النظم(٤)، والوجه أن تكون موصولةً، وإنما أوثرت على ( مَن ) لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها " (٥).
وقد رد أبو حيان اعتراضَه على كونها مصدرية، وتوجيهه الإتيان بها دون ( مَن ) فقال : وأما قوله :" وليس بالوجه، لقوله يعني من عود الضمير في
على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو (ما) المراد به الذي يلزم ولا يلزم ذلك، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام، ففي
(٢) ذكره عنه ابن عطية ١٦/٣١١، وابن كثير ٨/٤١١.
(٣) فإن الضمير هنا يعود على الله بالاتفاق، انظر : تفسير ابن جزي ٢/٥٧٦.
(٤) المراد بفساد النظم ما يلزم من عطف الفعل على الاسم، انظر : الألوسي ٣٠/١٤٣.
(٥) تفسيره ٦/٣٨٢، وانظر : تفسير الرازي ٣١/١٩١، وأبي السعود ٩/١٦٣.
وقال ابن جرير :" وإنما جاز استثناء، وهم جمع من الهاء في قوله : ، وهي كناية الإنسان، والإنسان في لفظ واحد ؛ لأن الإنسان وإن كان في لفظ واحد فإنه في معنى الجمع ؛ لأنه بمعنى الجنس " (١).
وقال البغوي :" و نكرة تعمُّ الجنس، كما تقول : فلان أكرم قائم " (٢).
واختاره بعض المفسرين، وممن اختاره الفراء(٣)، وشيخ الإسلام وابن القيم كما تقدم، وابن عاشور(٤).
القول الثاني : أن المعنى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم لا يردون إلى الهرم وأرذل العمر، والاستثناء على هذا منقطع(٥).
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال :" من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ : ، قال : لا يكونُ حتى لا يعلم بعد علم شيئاً " (٦).
وروي عن عكرمة أنه قال :" من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، ثم قرأ :
، قال : لا يكونُ حتى لا يعلم من بعد علم شيئاً " (٧)، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً، ويكون مُسْتَثْنَين ممن يُردُّ إلى أسفل سافلين(٨).
وقد ردّ شيخ الإسلام القول بأن الاستثناء منقطع، وقال :" إن المنقطع لا يكون في الموجَب " (٩)، وتقدم ذكر كلامه.
كما ردَّ تخصيصه بقارئ القرآن، وقال : إن الآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء قرأوا القرآن أو لم يقرأوه.
(٢) تفسير البغوي ٤/٥٠٤.
(٣) المعاني ٣/٢٧٧.
(٤) تفسيره ٣٠/٤٢٩.
(٥) انظر : تفسير ابن جرير ٢٤/٥١٧، وإعراب القرآن للنحاس ٥/٢٥٧.
(٦) أخرجه الحاكم ٢/٥٢٨، والواحدي ٤/٥٢٥، وغيرهما.
(٧) أخرجه ابن جرير ٢٤/٥١٧ [ ط التركي ]، وانظر : الدر ٦/٦٢١.
(٨) انظر : تفسير ابن جرير ٢٤/٥١٧ [ ط التركي ].
(٩) الموجَب : المثبت. انظر : شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك ٢/١٥٠ – ١٥١.
والأظهر – والله أعلم – القول الأول، لوروده عن جمع من السلف، ولأن القائلين به من المفسرين أكثر، ويمكن أن يقال : إن القول الثالث، الذي اختاره ابن عطية وشيخ الإسلام داخل في هذا القول، غير معارض له.
سورة البينة : الآية ٤
قال تعالى :(١).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بالبينة في الآية ما في كتب أهل الكتاب من بيان نبوته - ﷺ -.
قال – رحمه الله – :" قال أبو الفرج : يعني من لم يؤمن وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه محمد، والمعنى لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث ؛ قاله الأكثرون.
والثاني : القرآن ؛ قاله أبو العالية.
والثالث : ما في كتبهم من بيان نبوته ؛ ذكره الماوردي.
فنفى الفعل قال : ، ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه ونفى أن يعبد شيئاً مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال : بل أنتم بريئون من عبادة ما أعبده، فليس لبراءتي وكمال براءتي وبعدي من معبودكم وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له يكون لكم نصيب من هذه العبادة ؛ بل أنتم أيضا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد، لا في الحال الأولى ولا في الثانية، ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولى لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية، فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولى الخاصة وحين البراءة الثانية العامة القاطعة، وهم لم يختلف حالهم في الحالين بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد، فلم يكن في تغيير العبارة فائدة وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنيين، والإنسان يقوى يقينه وإخلاصه وتوحيده وبراءته من الشرك وأهله وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم فرفع درجته في ذلك، وهو في ذلك يقول للكفار :( لا تعبدون ما أعبد ) في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد، فالمقصود بالسورة أن المؤمن يتبرأ منهم ويخبرهم أنهم برآء منه، وتبريه منهم إنشاء ينشئه كما ينشئ المتكلم بالشهادتين، وهذا يزيد وينقص، ويقوى ويضعف، وأما هم فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال لا ينشئ شيئاً لم يكن فيهم، فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم والخبر مطابق للمخبر عنه فلم يتغير لفظ خبره عنهم إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته لله لا يعبدون ما يعبد، فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا، ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم فإن ذلك محرم، بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان، وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به " (١).
قال ابن قتيبة :" ويقال : الغاسق : القمر إذا كَسَفَ فاسودَّ، ومعنى : دخل في الكسوف " (١)، وتقدم تضعيف شيخ الإسلام لقول ابن قتيبة هذا.
القول الثاني : أنه الليل إذا أقبل ؛ وبه قال ابن عباس – رضي الله عنهما –، ومجاهد، والحسن، ومحمد بن كعب القرظي(٢)، وقتادة(٣)، وهو قول جمهور المفسرين(٤).
واختاره الفراء، وقال :" والغاسق : الليل، : إذا دخل في كل شيء وأظلم " (٥).
واختاره الزجاج، وقال :" يعني به الليل، إذا دخل، وقيل : الليل غاسق – والله أعلم – لأنه أبردُ من النهار، والغاسق البارد " (٦).
واختاره أيضاً النحاس معللاً ذلك بأنه يدخل فيه جميع الأقوال ؛ حيث قال :" وأكثر أهل التفسير أن الغاسق الليل، ومنهم من قال : الكوكب، فإذا رُجع إلى اللغة عُرف منها أنه يقال : غسق إذا أظلم، فاتفقت الأقوال ؛ لأن الشمس إذا غربت دخل الليل، والقمر بالليل يكون، والكوكب لا يكاد يطلع إلا ليلاً، فصار المعنى : ومن شرِّ الليل إذا دخل بظلمته فغطَّى كل شيء " (٧).
واختاره الشوكاني وقال :" ووجه تخصيصه أن الشر فيه أكثر والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم : الليل أخفى للويل " (٨).
واختاره ابن عاشور(٩).
(٢) أخرجه عنهم ابن جرير ١٢/٧٤٨ – ٧٤٩، وانظر : الدر ٦/٧١٨ – ٧١٩.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٣/٤٧٦ [ ط محمود عبده ].
(٤) نسبه لأكثر المفسرين شيخ الإسلام كما تقدم، وابن القيم، والنحاس كما يأتي.
(٥) معاني القرآن ٣/٣٠١.
(٦) معاني القرآن ٥/٣٧٩، وقال الأخفش في معانيه ٢/٥٨٩ :" الغسوق : الظلمة ".
(٧) إعراب القرآن ٥/٣١٣.
(٨) تفسيره ٥/٧٥٩.
(٩) تفسيره ٣٠/٦٢٧.
قلت : هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية، وجواب ذلك : أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعاً مقيداً في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقاً، وأنت إذا قلت : إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك، لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضاً فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس، وذلك لأن الناس والجنة متقابلان، وكذلك والإنس والجن، فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله :
(١)، وهو كثير في القرآن، وكذلك قوله : يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر خلاف الرجال والجن، فإنهما لم يستعملا متقابلين، فلا يقال : الجن والرجال، كما يقال : الجن والإنس، وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس ؛ لأنه قابل بين الجنة والناس فعُلم أن أحدَهما لا يدخل في الآخر " (٢).
القول الثالث : أن المعنى : من شر الوسواس الذي هو من الجنة، ومن شرِّ الناس، فقوله : معطوفة على، وهذا قول الزجاج(٣)، واختاره أيضاً النحاس، وقال :" سألت عليَّ بن سليمان(٤) عن قوله عزّ وجل :
(٢) بدائع الفوائد ٢/٣٩٣ – ٣٩٥.
(٣) نسبه إليه ابن الجوزي ٨/٣٣٦، وشيخ الإسلام تبعاً له، وقد قال محقق كتابه :" إنه لم يفسر هذه السورة " ٥/٣٨١.
(٤) هو الأخفش الصغير، علي بن سليمان بن الفضل، أبو المحاسن، نحوي، توفي ببغداد سنة ٣١٥هـ، له شرح كتاب سيبويه، والمهذب. انظر : بغية الوعاة ٢/١٦٧ ترجمة رقم (١٧٠٩)، والأعلام ٤/٢٩١.
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم اذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً "... أم سلمة... ٢٢٧
" اللهم وصلَّ على محمد وعلى أزواجه وذريته "... أبو حميد الساعدي... ٦٢، ٢٢٥، ٢٢٩
" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها "... العرباض بن سارية... ٢٣٢
" تلك صلاة المنافق "... أنس... ٦٦٨، ٦٧٣
" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين "... أبو موسى الأشعري... ٤٧٩
" جلس رسول الله - ﷺ - في نادٍ من أندية قريش كثير أهله "... محمد بن كعب ومحمد بن قيس
" خرج النبي - ﷺ - غداة وعليه مِرط مرحَّل "... عائشة... ٢٢٦، ٧١٠
" دعوا لي أصحابي "... أنس... ٤٦١
" الذاكرون الله كثيراً والذاكرات "... أبو سعيد الخدري... ٢١٠
" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "... ابن مسعود... ٣٦٤، ٣٦٥، ٣٦٧
" سبحان ربي الأعلى "... ابن عباس... ٥٥٩، ٥٦٥
" سيروا، هذا جمدان سبق المفرِّدون "... أبو هريرة... ٢١٠
" عدلت شهادة الزور الإشراك بالله "... ابن مسعود... ١٢٣
" عليكم بقيام الليل فإنه قربة إلى ربكم "... بلال، وأبو أمامة... ٢٠٨
" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة "... بريدة... ١٠١
" فاطمة وولدها عليهم السلام "... ابن عباس... ٣٢٢
" فإذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به "... أبو هريرة... ١٢٩
" فحجي عنه "... ابن عباس... ٤٢٦
" كان زكريا نجاراً "... ٩٠
" كل مولود يولد على الفطرة "... أبو هريرة... ٢١٩
" لا تخيروني على موسى "... أبو هريرة... ١٩٢
" لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد "... أنس... ٦٢، ٣٩٤، ٣٩٥
" لا تنكحها "... عمرو بن شعيب... ١٥٧
" لا، شيء قضي عليهم ومضى فيهم "... عمران بن حصين... ٦٠٩، ٦١١
" لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان "... عائشة... ٦٢٩
" لا نورَث ما تركنا صدقة "... عائشة... ١٧٦
" لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة "... أبو ميسرة... ٤٦٠
" لا يَسْتَرْقون "... ابن عباس... ٥٤٠
" لا يمس القرآن إلا على طهر "... عمرو بن حزم... ٤٥١
" لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله "... أبو هريرة... ١٦١
" ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة "... جابر... ١٠١
" ليس من نفس برةٍ ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها "... ٥٣٥