وفي هذا العصر أقبلُ الناس على علوم هذا الإمام، وانتشرت كتبه - ولله الحمد -، وقد كُتب حوله نحو مائتي رسالة علمية جامعية في فنون متعددة(١)، ومثلها أو أَزيد من الدراسات الأخرى ؛ ولا تكاد تخلوا واحدةٌ منها من ترجمة.
لقد وَقَفت طويلاً، واحترت، قبل أن أَرقم هذه الكلمات في ترجمة هذه الشخصية الفذَّة، ماذا أذكر، وماذا أذر، وعن أي جانب من جوانب حياته الماتعة، وسيرته الزكيَّة، أتحدث، هل أتحدَّث عن تَألهِّه ونُسكه، أم أتحدث عن زهده وورعه، أم أتحدث عن علمه وحفظه وفقهه، أم أتحدث عن شجاعته وجرأته في الحق، أم أتحدث عن ابتلائه ومحنه، أم أتحدث عن صبره وحلمه على خصومه، أم أتحدث عن خاتمة حياته، ويوم وفاته ؟

ماذا يقول الواصفون له وصفاته جلت عن الحصر
هو حُجَّةٌ لله قاهرةٌ هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية للخلق ظاهرةٌ أنوارها أربت على الفجر(٢)
وأبلغ من هذا قول تلميذه الحافظ أبي الحجاج المزَّي :
(١) انظر : دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر مائة وسبعاً وسبعين رسالة، منها : سبع وأربعون دراسة وتحقيق لبعض كتبه، وقد فاته كثير، وجدَّ بعده جديد.
(٢) هذه أبيات قالها فيه تلميذه ابن الزملكاني، انظر البداية ١٤/١٤٢، والعقود ص١١، والذيل لابن رجب ٢/٣٩٢.

وضعَّف هذا القول ابن جُزي، وقال :" وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره، فلا يصح تفصيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومَن لا يسجد ؛ لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى، وقيل : إن قوله معطوف على ما قبله ثم عطف عليه فالجميع على هذا يسجد، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله : يقتضي ظاهرهُ أنه إنما حق عليه العذاب بتركه السجود " (١).
والأظهر لي – والله أعلم – القول الأول وهو قول الجمهور ؛ لأنه ظاهر الآية، حيث قسَّم الله تعالى الناس إلى صنفين، صنفٍ من الناس تابع لما سبق في السجود، وصنف آخر أبى السجود ولذلك حق عليه العذاب، وتفسيرُ السجود بمعنى الانقياد والخضوع بعيد ؛ لأن الجميع خاضع منقاد لله تعالى.
سورة الحج : الآيتان ٣٠ - ٣١
قال تعالى :(٢).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بالزور في هذه الآية : كلُّ قول باطل.
قال – رحمه الله – عند هذه الآية :" وفي الصحيحين(٣) عن النبي - ﷺ - قال :" عدلت شهادة الزور الإشراك بالله " قالها مرتين أو ثلاثاً، ثم تلا هذه الآية، وإنما في الآية :
(١) تفسيره ٢/٥٣.
(٢) سورة الحج : الآيتان ٣٠ – ٣١.
(٣) يأتي تخريجه، وليس في الصحيحين، وإنما الذي في الصحيحين حديث أبي بكرة وأنس – رضي الله عنهما - :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر... " وليس فيه ذكر الآية. انظر : فتح الباري ٥/٣٢٢، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور.

وقال أبوحيان :" والظاهر أنه خبر قُصد به تشنيع الزنا وأمره، فالمعنى : أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلا زانية من المسلمين، أو أخس منها وهي المشركة، والنكاح بمعنى الجماع " (١).
ورجّح هذا القول ابن جرير، وقال :" وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال عُني بالنكاح في هذا الموضع الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات ؛ وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وأن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان، فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أنه لم يُعنَ بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة، وإذ كان ذلك كذلك فبين أن معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنى أو بمشركة تسْتحِلِّهُ " (٢).
وترجيحه بسبب النُّزول لا يوافق عليه ؛ فإن سبب النُّزول صريح في الدلالة على القول الأول.
واختار بأن المراد به الوطء ابن جزي(٣)، وابن كثير كما تقدم، وأبو حيان(٤)، والشنقيطي(٥).
وقد ضعّف هذا القول الزجاج ؛ لأن النكاح لم يطلق في القرآن إلا على التزويج، ولو كان المراد به الوطء لما كان في الكلام فائدة، لأن القائل إذا قال : الزانية لا تزني إلا بزان، والزاني لا يزني إلا بزانية ؛ لم يكن في كلامه فائدة إلا على جهة التغليظ في الأمر(٦).
(١) تفسيره ٦/٣٩٥ باختصار، وانظر : الألوسي ١٨/٨٤.
(٢) تفسيره ١٧/١٦٠ [ ط التركي ]، وانظر : الكشاف ٣/٦١.
(٣) تفسيره ٢/٨٢.
(٤) تفسيره ٦/٣٩٥.
(٥) تفسيره أضواء البيان ٦/٧٦.
(٦) انظر : معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٠٢٩، وبمثله قال الزمخشري ٣/٦١، وابن القيم في إغاثة اللهفان ١/٧٢.

قال تعالى :(١).
اختار شيخ الإسلام أن المراد بالموتى في الآية هم الذين ماتوا بالفعل، وأن المراد بالسماع المنفي في الآية هو السماع المعتاد الذي ينتفع به صاحبه.
قال - رحمه الله - عند هذه الآية :" إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه ؛ فإن هذا مَثَل ضُربَ للكفار، والكفار تسمع الصوت لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتِّباع، كما قال تعالى :(٢).
فهكذا الموتى الذين ضُرب لهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواع السماع، كما لم يُنْفَ ذلك عن الكفار ؛ بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا ينفي عنهم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما(٣) أن الميت يسمع خَفْقَ نعالهم إذا ولوا مدبرين ؛ فهذا موافق لهذا، فكيف يدفع ذلك.." (٤).
الدراسة :
ذهب عامة المفسرين كابن جرير(٥)، والسمرقندي(٦)، والزمخشري(٧)، وابن عطية(٨)، والقرطبي(٩)، وأبي حيان(١٠)، إلى أن المراد بالموتى في الآية هم الكفار الأحياء(١١).
(١) سورة النمل : الآية ٨٠.
(٢) سورة البقرة : الآية ١٧١.
(٣) أخرجه البخاري ٣/٢٦٢ ح١٣٣٨، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، ومسلم في ٤/٢٢٠٠ ح٢٨٧٠، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(٤) مجموع الفتاوى ٤/ ٢٩٨، وانظر : ٢٤ / ٣٦٣.
(٥) تفسيره ١٠/١٣.
(٦) تفسيره ٢/٥٠٤.
(٧) تفسيره ٣/١٥٢.
(٨) تفسيره ١٢/١٣٠.
(٩) تفسيره ١٣/١٥٤.
(١٠) تفسيره ٧/٩١.
(١١) قال بعض المفسرين : المراد الكفار الذين يموتون على الكفر، انظر : تفسير الماوردي ٤/٣٢٢، قال ابن عطية :" قال العلماء : الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله بكفره " ١٢/١٣٠.

وقد ذهب ابن كثير إلى أن الآية يمكن أن تحمل على المعنيين الأول والثاني حيث قال :" وهذا القول - إلا ما أريد به وجهه - لا ينافي القول الأول - إلا إياه - فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله - تعالى - من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته – تعالى وتقدس - فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء " (١).
وتعقبه القاسمي بقوله :" وفيه بعد وتكلف يذهب رونق النظم، وماء الفصاحة، لاسيما وآي التنْزيل يفسر بعضها بعضاً، والآية الثانية التي ذكرناها(٢) بمعنى هذه، وتلك لا تحتمل ذاك المعنى، فكذا هذه " (٣).
القول الثالث : أن المراد بالوجه في الآية هو صفة من الصفات الذاتية الثابتة لله سبحانه، فتثبت لله تعالى على وجه يليق بجلاله وعظمته، مع التنْزيه التام عن مشابهة المخلوقين، حملاً للآية على ظاهرها المتبادر منها(٤)، وهو اختيار الشنقيطي(٥) وابن عثيمين(٦).
القول الرابع : أن معنى قوله تعالى : إلا ملكه(٧).
القول الخامس : أن معنى قوله تعالى : إلا العلماء ؛ فإن علمهم باقٍ(٨).
القول السادس : أن معنى قوله تعالى : إلا جاهه كما يقال : لفلان وجه في الناس، أي : جاه(٩).
وهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة ظاهر ضعفُها.
(١) تفسير ابن كثير ٣/٤١٤.
(٢) وهي قوله تعالى : سورة الرحمن : الآيتان ٢٦ – ٢٧.
(٣) تفسير القاسمي ١٣/١٣٤.
(٤) انظر : تفسير الشنقيطي ٧/٤٤٣، وشرح الواسطية للعثيمين ١/٢٨٧.
(٥) تفسيره ٤/٢٦٤.
(٦) شرح العقيدة الواسطية ١/٢٨٦.
(٧) ذكره البخاري في صحيحه ٨/٦٤١ كتاب التفسير، تفسير سورة القصص، و السمرقندي ٢/٥٢٩، والماوردي ٤/٢٧٣، والبغوي ٣/٤٥٩ وغيرهم.
(٨) ذكره الماوردي ٤/٢٧٣.
(٩) ذكره الماوردي ٤/٢٧٣، والقرطبي ١٣/٢١٣.

القول الأول : ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالحكمة في الآية هي السُنَّة، سنة النبي - ﷺ -، وقد روي ذلك عن قتادة(١)، والحسن(٢)، واختاره الإمام الشافعي، وابن جرير(٣)، والسمرقندي(٤)، والزمخشري(٥)، وابن كثير(٦)، والألوسي(٧)، وابن عاشور(٨).
وقال الإمام الشافعي بعد أن ذكر هذه الآية وما في معناها من الآيات :" فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله، قال : وهذا يشبه ما قال – والله أعلم – لأن القرآن ذكر، وأتبعه الحكمة، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره ؛ فلا يجوز أن يقال لقول : فرض، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله " (٩).
القول الثاني : أن المراد بالحكمة في الآية : أحكام القرآن ومواعظه، أو أمر الله ونهيه في القرآن. وعلى هذا القول تكون الحكمة صفةً لآيات الله المذكورة في الآية أو من باب عطف الخاص على العام ؛ وهذا مروي عن قتادة ومقاتل(١٠).
(١) تفسير ابن جرير ١٠/٢٩٩، وابن أبي حاتم ٩/٣١٣٣.
(٢) ذكره عنهما الثعلبي ٨/٤٥، وذكره عن مقاتل الواحدي في الوسيط ٣/٤٧٠، والبغوي ٣/٥٢٩.
(٣) تفسيره ١٠/٢٩٩.
(٤) تفسيره ٣/٥٠.
(٥) تفسيره ٣/٢٣٦.
(٦) تفسيره ٣/٤٩٥.
(٧) تفسيره ٢٢/٢٠.
(٨) تفسيره ٢٢/١٨.
(٩) الرسالة للإمام الشافعي ص٧٨، وانظر كتاب الأم له ٧/٢٧٠.
(١٠) الكشاف ٣/٢٣٦.

٤ – أن الله تعالى عقَّب هذه الآية وما بعدها بقوله سبحانه :(١)، فدل على أن من تقدم ذكرهم كلهم مسلمون(٢).
القول الثاني : أن المراد بالظالم لنفسه في الآية الكافر، وهو في النار ؛ وروي هذا القول عن ابن عباس(٣)، وبه قال مجاهد(٤)، وعكرمة(٥)، والحسن، وقتادة(٦)، واختار الفراء هذا القول(٧).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها :
١ – ما ذكره الفراء(٨) من أن هذه الآية موافقة لقوله تعالى في سورة الواقعة :
(٩)، قال :" فأصحاب الميمنة هم المقتصدون، وأصحاب المشأمة الكفار، والسابقون السابقون أهل الدرجات العلى أولئك المقربون في جنات عدن ".
(١) سورة فاطر : الآية ٣٦.
(٢) استدل بذلك كعب الأحبار، انظر : تفسير ابن جرير ١٠/٤١١، وابن القيم في طريق الهجرتين ص٣٥١.
(٣) أخرجه عبدالرزاق في تفسيره ٢/١٣٥، وابن جرير ١٠/٤١٢، وابن أبي حاتم ١٠/٣١٨١، وانظر : الدر المنثور ٥/٤٧٣، وإسناده صحيح، لكن ذكر السمرقندي ٣/٨٧ عن بعضهم أنه تأوَّل هذه الرواية بقوله :" يعني كفر النعمة، ومعناه : فمنهم من كفر بهذه النعمة، ولم يشكر الله عز وجل عليها ".
(٤) أخرجه ابن جرير ١٠/٤١٢، وابن أبي حاتم ١٠/٣١٨٢.
(٥) أخرجه ابن جرير ١٠/٤١٢.
(٦) أخرجه عبدالرزاق ٢/١٣٥، وابن جرير ١٠/٤١٢ قالا :" هو المنافق "، وانظر : الدر المنثور ٥/٤٧٤.
(٧) معاني القرآن ٢/٣٦٩. واختار الزمخشري أن الضمير في قوله تعالى : يعود إلى السابق خاصة. انظر : الكشاف ٣/٢٧٦، وهذا الرأي مبني على مذهب المعتزلة في الوعيد، وقد رد عليه ابن المنير، وقد نسبه ابن القيم في طريق الهجرتين ص٣٤٦ إلى منذر بن سعيد والرماني وغيرهم.
(٨) معاني القرآن للفراء ٢/٣٦٩، وتفسير هذه الآية بآية الواقعة مروي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. انظر : تفسير ابن جرير ١٠/٤١٢، ٤١٣.
(٩) سورة الواقعة : الآيات ٨ - ١٢.

٣ – أن أصحاب القرية قالوا للرسل :(١) ومثل هذا الكلام إنما يوجه لمن قال : إن الله - تعالى – أرسله وأنزل عليه الوحي لا لمن جاء رسولاً من عند رسول(٢).
٤ – أن الله - تعالى – ضرب أصحاب القرية مثلاً لمن أرسل إليهم محمداً - ﷺ - وإنما يضرب له المثل برسول نظيره لا بأتباع رسول.
٥ – أن الله – تعالى – قال :(٣) ولو كانوا رسل الرسول لكان التكذيب لمن أرسلهم.
القول الثاني : أن الرسل المذكورين في الآية رسلُ المسيح عيسى - عليه السلام - ؛ وبه قال قتادة(٤)، وابن جريج(٥)، واختاره السمرقندي(٦)، والثعلبي(٧)، والواحدي(٨)، والزمخشري(٩)، والبغوي(١٠)، والشوكاني(١١)، وغيرهم.
وقد تأوَّل بعض أصحاب هذا القول قولَه تعالى : بأن إرسال عيسى - عليه السلام - لهؤلاء الرسل كانوا بأمر الله تعالى، ولذلك أضافه إليه، وذلك لتتم التسلية له - ﷺ -، فلا يقع في قلبه أن أولئك رسل الرسول، وهو رسول الله فإن تكذيبهم كتكذيبه(١٢).
وأجابوا عن قول المرسل إليهم بأنهم فهموا أنهم رسل من عند الله دون واسطة، أو أنهم جعلوا الرسل بمنْزلة مرسلهم ؛ فخاطبوهم بما يبطل رسالته ونزلوه منْزلة الحاضر تغليباً(١٣).
والراجح هو القول الأول لقوة أدلته، وما ذكره أصحاب القول الثاني من التأويلات فهي متكلفة فلا يلتفت إليها، والله أعلم.
(١) سورة يس : الآية ١٥.
(٢) واستدل بهذا الدليل ابن عطية ١٣/١٩٣، وأبو حيان ٧/٣١٣، وابن كثير ٣/٥٧٧.
(٣) سورة يس : الآية ١٤.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ٢/١٤٠، وابن جرير ١٠/٤٣١.
(٥) ذكره في الدر المنثور ٥/٤٩٠، وعزاه لابن المنذر.
(٦) تفسيره ٣/٩٥.
(٧) تفسيره ٨/١٢٤.
(٨) الوسيط ٣/٥١١.
(٩) تفسيره ٣/٨٢.
(١٠) تفسيره ٤/٧.
(١١) تفسيره ٢/٥١١.
(١٢) تفسير الرازي ٢٦/٤٥، والألوسي ٢٢/٢٢٠.
(١٣) تفسير الألوسي ٢٢/٢٢٠.

والمسألة كما يقول ابن العربي :" ليست من الأحكام، ولا من أصول الدين، وإنما هي من محاسن الشريعة وتوابعها ومُتَمِّمَاتها " (١)، ولذلك لن أُطيل في عَرض أقوال العلماء فيها، واستقصاء أدلتهم، ومناقشتها، وقبل أن أذكر القولين في هذه المسألة أنبه إلى أنه ورد في كل منهما حديث مرفوع، ولكن لم يصح في ذلك شيء(٢).
القول الأول : أنه إسماعيل - عليه السلام - ؛ وبه قال ابن عمر(٣)، وابن عباس(٤) - رضي الله عنهم -، وسعيد بن المسيب(٥)، والشعبي(٦)، ومجاهد(٧)، ومحمد بن كعب القرظي(٨)، والحسن البصري(٩)،
وسعيد بن جبير(١٠)، ويوسف بن مهران(١١) (١٢)، وغيرهم.
(١) أحكام القرآن ٤/١٦١٧، وانظر : فتاوى اللجنة الدائمة ٤/٢٣٤.
(٢) انظر : المستدرك ٢/٥٥٤، وزاد المعاد ١/٧١، وتفسير ابن كثير ٤/١٦، والدر المنثور ٥/٥٢٩ – ٥٥٣، والقول الفصيح للسيوطي، والسلسلة الضعيفة ١/٣٣٦ - ٣٣٧، والتحديث بما قيل : لايصح فيه حديث لبكر أبو زيد ص١٤٠.
(٣) أخرجه ابن جرير ٥/٥١٢، والحاكم ٢/٦٠٤ وصححه، وعزاه في الدر ٥/٥٢٩ أيضاً لابن المنذر وعبد بن حميد.
(٤) رُوي عنه من طُرق متعددة : أخرجه الحاكم ٢/٦٠٤ وصححه، وابن جرير ٥/٥١٢ من طُرق، وعزاه السيوطي في الدر ٥/٥٢٨ أيضاً لابن المنذر، وانظر : الدر ٥/٥٢٨ – ٥٢٩.
(٥) عزاه في الدر المنثور ٥/٥٢٩ لعبد بن حميد.
(٦) أخرجه ابن جرير ٥/٥١٣.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٣/٩٩ [ ط محمود عبده ]، وابن جرير ٥/٥١٣.
(٨) أخرجه ابن جرير ٥/٥١٣، والحاكم ٢/٦٠٥، وعزاه في الدر ٥/٥٢٩ لعبد بن حميد.
(٩) أخرجه ابن جرير ٥/٥١٣، وعزاه في الدر ٥/٥٣٠ لعبد بن حميد.
(١٠) عزاه في الدر ٥/٥٢٩ لعبد بن حميد.
(١١) هو يوسف بن مهران، مكي، روى عن ابن عباس وابن عمر. الجرح والتعديل ٩/٢٢٩، الثقات ٥/٥٥١.
(١٢) أخرجه ابن جرير ٥/٥١٣.

قوله تعالى : أي : يقبضها عند فناء أجلها، وانقضاء مدة حياتها، وهذه هي الوفاة الكبرى، وأما التي لم يَحن أجلها فيتوفاها عند منامها، وهذه الوفاة الصغرى، كما قال سبحانه في سورة الأنعام :(١)، فذكر الوفاتين : الصغرى ثم الكبرى(٢).
قال الزجاج :" فالميتَةُ المتوَّفاة وفاة الموت التي قد فارقتها النَّفس التي يكون بها الحياة والحركة، والنفس التي تميزِّ بها، والتي تُتَوفَّى في النوم نفسُ التمييز، لا نفس الحياة ؛ لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النَّفس، والنائم يتنفس، فهذا الفرق بين تَوفِّي نفس النائم في النوم، وتنفس الحي " (٣).
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : على قولين :
القول الأول : أن النفس الممسكة من توفِّيت وفاة الموت الحقيقي أولاً، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا القول : أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى(٤).
(١) سورة الأنعام : الآيتان ٦٠ – ٦١.
(٢) انظر : تفسير ابن جرير ١١/٩، والزمخشري ٣/٣٤٩، وابن كثير ٤/٦٠، وفتح القدير ٤/٦٥٤.
(٣) معاني القرآن وإعرابه ٤/٣٥٦، الكشاف ٣/٣٤٩، وانظر : الوسيط للواحدي ٣/٥٨٣، وتفسير السمعاني ٤/٤٧، زاد المسير ٧/١٩، وأبي حيان ٧/٤١٤.
(٤) انظر : تفسير ابن جزي ٢/٢٧٠، والروح لابن القيم ص٢٨.

وأما قولُ طائفة من المتفلسفة ومن تبعهم من المتكلمة والمتصوفة : إن الضمير عائد إلى الله ؛ وأن المراد ذكر طريق معرفته بالاستدلال بالعقل ؛ فتفسير الآية بذلك خطأ من وجوه كثيرة، وهو مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها " (١).
الدراسة :
اختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله تعالى : على أقوال :
القول الأول : أنه يعود على القرآن، وبذلك قال جمهور المفسرون، واختاره الواحدي(٢)، وشيخ الإسلام - كما تقدم -، وأبو حيان(٣)، وابن القيم(٤)، والشوكاني(٥)، والألوسي(٦)، والسعدي(٧)، وابن عاشور(٨)، واستدلوا لذلك بدلالة السياق، فإن سياق الآيات في ذكر القرآن، كما قال تعالى :(٩).
القول الثاني : أنه يعود على الرسول - ﷺ -، واختاره النحاس(١٠).
القول الثالث : أنه يعود على الإسلام، أو الدين أو التوحيد، أو ما جاءهم به الرسول - ﷺ - (١١).
القول الرابع : أنه يعود على الله تعالى(١٢).
(١) مجموع الفتاوى ٣/٣٣١، وانظر : ٤/٩، ٧/٢٣٦، ١٣/١٨٢، ١٥/٧٣، ١٨/٢٤١، والجواب الصحيح ٣/٢٠٧، ٥/٤٠٥، ومنهاج السنة ٤/٥٤٢، وشرح العقيدة الأصبهانية ١/٢٨.
(٢) الوسيط ٤/٤١.
(٣) تفسيره ٧/٤٨٢.
(٤) الفوائد ص٢٩.
(٥) تفسيره ٤/٧٣٣.
(٦) تفسيره ٢٥/٦.
(٧) تفسيره ص٦٩٨.
(٨) تفسيره ١٨/٢٥.
(٩) استدل بذلك النحاس في إعراب القرآن ٤/١٦٨، وشيخ الإسلام كما تقدم.
(١٠) إعراب القرآن ٤/١٦٨، وانظر : تفسير الشوكاني ٤/٧٣٣.
(١١) انظر : تفسير الماوردي ٥/١٨٩، وابن الجوزي ٧/٦٩، والقرطبي ١٥/٢٤٤، وحاشية الشهاب على البيضاوي ٧/٤٠٦، وتفسير الألوسي ٢٥/٦.
(١٢) انظر : إعراب القرآن للنحاس ٤/١٦٨، والبيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري ٢/٣٤٣، وحاشية الشهاب على البيضاوي ٧/٤٠٦.

والراجح – والله تعالى أعلم – القول الأول ؛ لثبوته عن حبر الأمة - رضي الله عنه - (١) ؛ ولأن نظم الآية يدل عليه، ويرد الأقوال الأخرى، وذلك لدخول فيها(٢)، وتقدم إيضاح ذلك.
هذا وليست هذه الآية معارضة لما ورد في غيرها من الآيات الدالة على أن الرسل لا يأخذون على تبليغهم أجراً مثل قوله تعالى :(٣) ؛ لأن الآية على الأقوال الأربعة في معناها، لا يراد بها الأجر والعوض على التبليغ(٤).
كما أنها ليست منسوخة بقوله تعالى :(٥)، كما ورد عن بعضهم(٦).
سورة الشورى : الآية ٥٢
قال تعالى :(٧).
اختار شيخ الإسلام أن الضمير في قوله تعالى : يتناول القرآن والإيمان.
قال – رحمه الله – في سياق حديثه عن الإيمان :" لكنِ الرسول له وحيان : وحي تكلم الله به يتلى، ووحي لا يتلى فقال : الآية، وهو يتناول القرآن والإيمان، وقيل : الضمير في قوله : يعود إلى الإيمان ؛ ذكر ذلك عن ابن عباس. وقيل : إلى القرآن ؛ وهو قول السدي وهو يتناولهما، وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه وهو الوحي الذي جاء بالإيمان والقرآن، فقد تبين أن كلاهما(٨) من الله نور وهدى ومنه هذا يعقل بالقلب ; لما قد يشاهد من دلائل الإيمان مثل دلائل الربوبية والنبوة وهذا يسمع بالآذان " (٩).
الدراسة :
اختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله تعالى : على ثلاثة أقوال :
(١) انظر : قواعد الترجيح ١/٢٠٦.
(٢) تفسير ابن جرير ٢٠/٥٠٢ [ ط التركي ].
(٣) سورة ص : الآية ٨٦.
(٤) انظر : تفسير الشوكاني ٧/١٨٩، ودفع إيهام الاضطراب للشنقيطي ص١٦٥ – ١٦٧.
(٥) سورة سبأ : الآية ٤٧.
(٦) رجح إحكام الآية ابن عطية في تفسيره ٤/٢١٨، والحافظ في الفتح ٨/٧١٨، والشنقيطي في تفسيره ٧/١٩١.
(٧) سورة الشورى : الآية ٥٢.
(٨) هكذا في المطبوع، وهي هنا منصوبة : كليهما.
(٩) مجموع الفتاوى ١٥/٢٧.

٤ - أن الشفاعة لم تذكر بعدها صلة لها، بل قال : فنفي ملكهم الشفاعة مطلقاً، وهذا هو الصواب، وأن كل من دُعي من دون الله لا يملك الشفاعة، فإن المالك للشيء هو الذي يتصرف فيه بمشيئته وقدرته، والرب تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فلا يملك أحد من المخلوقين الشفاعة بحال، ولا يقال في هذا إنما يقال ذلك في الفعل، فيقال :(١)، وأما في الملك فلا يمكن أن يكون غيره مالكاً لها، فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال ؛ بل هذا ممتنع كما قال تعالى :(٢)، فنفى الملك مطلقاً، ثم قال :(٣)، فنفي نفع الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقاً يملك الشفاعة.
ثم قال بعد ذلك :" والمقصود هنا أن قوله : قد تم الكلام هنا، فلا يملك أحد من المعبودين من دون الله الشفاعة البتة.
ثم استثنى فهذا له، فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، فالملائكة والأنبياء والصالحون – وإن كانوا لا يملكون الشفاعة -، لكن إذا أذن الرب لهم شفعوا، وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين الذين يشهدون بالحق وهم يعلمون، لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليداً للآباء والشيوخ " (٤).
الدراسة :
اختلف المفسرون في الاستثناء الوارد في قوله تعالى : على قولين :
القول الأول : أن الاستثناء في الآية متصل، والمستثنى منه كل ما يعبد من دون الله، والمستثنى عيسى وعزير والملائكة – عليهم السلام -، وبه قال قتادة، قال ابن الجوزي :" وهو مذهب الأكثرين " (٥).
(١) سورة البقرة : الآية ٢٥٥.
(٢) سورة سبأ : الآية ٢٢.
(٣) سورة سبأ : الآية ٢٣.
(٤) مجموع الفتاوى ١٤/٤٠٠ – ٤١٢.
(٥) تفسيره ٧/١٠٩، قال النحاس في معاني القرآن ٦/٣٩٠ :" قول قتادة أَبْيَن "، ورجحه ابن جرير ١١/٢١٩، والبغوي ٧/٢٢٣ [ ط طيبة ]، وابن عطية ٥/٦٧ [ ط دار الكتب العلمية ].

قيل : كل هذه الأقوال وقع أصحابها فيما فروا منه ; مع خروجهم عن مدلول القرآن فحرفوه تحريفاً لم ينتفعوا به فإن قول من قال : أي : أمركم الله به، هو سبحانه قد علم هل يأمرهم أو لا يأمرهم فعلمه بأنه سيأمرهم بدخوله، كعلمه بأن يدخلوا، فعلقوا الاستثناء بما لم يدل عليه اللفظ، وعلم الله متعلق بالمظهر والمضمر جميعاً، وكذلك أمنهم وخوفهم هو يعلم أنهم يدخلون آمنين أو خائفين، وقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بأنهم يدخلون آمنين فكلاهما لم يكن فيه شك عند الله ; بل ولا عند رسوله. وقول من قال : جميعهم أو بعضهم يقال : المعلق بالمشيئة دخول من أريد باللفظ فإن كان أراد الجميع فالجميع لا بد أن يدخلوه وإن أريد الأكثر كان دخولهم هو المعلق بالمشيئة وما لم يرد لا يجوز أن يعلق بـ وإنما علق بـ ما سيكون ; وكان هذا وعداً مجزوماً به ".
ثم قال :" وكان قوله : هنا تحقيقاً لدخوله وأن الله يحقق ذلك لكم ; كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة : والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، بل تحقيقاً لعزمه وإرادته، فإنه يخاف إذا لم يقل : إن شاء الله أن ينقض الله عزمه ولا يحصل ما طلبه... ".
إلى أن قال :" فإذا جزم بلا تعليق كان كالتألي على الله فيكذبه الله، فالمسلم في الأمر الذي هو عازم عليه ومريد له وطالب له طلباً لا تردد فيه يقول :" إن شاء الله " لتحقيق مطلوبه وحصول ما أقسم عليه، لكونه لا يكون إلا بمشيئة الله لا لتردد في إرادته، والرب
- تعالى - مريد لإنجاز ما وعدهم به إرادة جازمة لا مثنوية فيها، وما شاء فعل فإنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ليس كالعبد الذي يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد.
القول الأول : أن الإيمان المنفي عنهم هو الإيمان الكامل، وأن الإسلام المثبت لهم هو الإسلام الشرعي الذي يثابون عليه، وهو مروي عن إبراهيم النخعي، والحسن، وابن سيرين، وأبي جعفر الباقر(١)، وهو قول حماد بن زيد(٢)، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبدالله التُّسْتَري(٣)، وأبي طالب المكي(٤)، وكثير من أهل الحديث والسنة(٥).
(١) هو السيد الإمام أبو جعفر، محمد بن علي بن الحسين بن علي العلوي الفاطمي المدني، ولد زين العابدين، ثقة فاضل، ولد سنة ٥٦هـ، توفي سنة ١١٤هـ. انظر : سير أعلام النبلاء ٤/٤٠١، والتقريب ص٤٩٧.
(٢) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، مولاهم البصري، أبو إسماعيل، من حفاظ الحديث المجودين، ولد سنة ٩٨هـ، وتوفي سنة ١٧٩هـ. انظر : حلية الأولياء ٦/٢٥٧، وتهذيب التهذيب ٣/٩.
(٣) هو سهل بن عبد الله بن يونس التُّسْتَرِي الزاهد، أبو محمد، ولد سنة ٢٠٠هـ، من مؤلفاته : التفسير، ورقائق المحبين، توفي سنة ٢٨٣هـ. انظر : حلية الأولياء ١٠/١٨٩ ترجمة رقم (٥٤٦)، والسير ١٣/٣٣٠.
(٤) هو محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب، واعظ زاهد فقيه، توفي ببغداد سنة ٣٨٦هـ، من مؤلفاته : علم القلوب، وقوت القلوب. انظر : تاريخ بغداد ٣/٨٩، وميزان الاعتدال ٣/٦٥٥.
(٥) ذكره عنهم شيخ الإسلام كما تقدم، وانظر : تفسير ابن جرير ١١/٤٠٠، والإيمان لابن منده ١/٣١١، قال ابن كثير عن هذا القول :" وهذا معنى قول ابن عباس – رضي الله عنهما -، وإبراهيم، وقتادة، واختاره ابن جرير " ٤/٢٣٤.

قال ابن رجب :" وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات " (١).
وقال الشنقيطي بعد أن ذكر القولين :" وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب، فالذين يقولون لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون يكتب الجميع متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب، إلا أن بعضهم يقولون لا يكتب أصلاً، وبعضهم يقولون : يكتب أولاً ثم يمحى " (٢).
وأما القول بعموم الآية فأجاب عنه ابن عاشور بقوله :" والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص، بقرينة قوله : ؛ لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شر ؛ ليكون عليه الجزاء... " (٣).
وعلى كل حال ينبغي للإنسان أن يمسك عمّا ليس بخير من الكلام، فهو أفضل وأسلم(٤).
سورة ق : الآية ١٩
قال تعالى :(٥).
اختار شيخ الإسلام أن معنى قوله تعالى : أي : بما بعد الموت من ثواب وعقاب.
قال – رحمه الله – عند هذه الآية :" أي : جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت ؛ فإن هذا مشهور لم يُنازع فيه، ولم يقل أحد : إن الموت باطل حتى يقال : جاءت بالحق " (٦).
الدراسة :
(١) جامع العلوم والحكم ١/٣٣٦، وانظر أقوال السلف في تفسير ابن جرير ١١/٤١٦.
(٢) أضواء البيان ٧/٥٦١، وانظر : تفسير ابن عطية ٥/١٦٠ [ ط دار الكتب العلمية ].
(٣) التحرير والتنوير ٢٦/٣٠٣.
(٤) لابن رجب – رحمه الله – كلام نفيس في هذا الباب تحسن مراجعته، انظر : جامع العلوم والحكم ١/٣٣٩ في شرح حديث :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ".
(٥) سورة ق : الآية ١٩.
(٦) مجموع الفتاوى ٤/٢٦٥.

قال – رحمه الله - :" وقوله : قيل : هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف، قالوا : والمراد بذلك من وجدت منه العبادة فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه فليس مخلوقاً لها ؛ وعن سعيد بن المسيب قال : ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني ؛ وكذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة – وهذا قول خاص بأهل طاعته -.
قال الضحاك : هي للمؤمنين... ، وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب(١)، والقاضي أبي يعلى وغيرهما، ممن يقول : إنه لا يفعل لعلّة، قال : أبو يعلى : هذا بمعنى الخصوص لا العموم ؛ لأن البُلْه(٢) والأطفال والمجانين، لا يدخلون تحت الخطاب وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله : الآية(٣)، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة ".
قال شيخ الإسلام :" هو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية وبيِّن بياناً لا يحتمل النقيض ؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة ; فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له ولم يذكر الإنس والجن عموماً، ولم تذكر الملائكة مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن.
(١) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر البصري المالكي، المعروف بأبي بكر الباقلاني، الأصولي المتكلم، أوحد وقته، قال ابن تيمية :" وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده "، من مؤلفاته : الإبانة، توفي سنة ٤٠٣هـ. انظر : سير أعلام النبلاء ١٧/١٩٠، وشذرات الذهب ٣/١٦٨.
(٢) جمع أَبْلَه، وهو من ضعُف عقله، وغلبت عليه الغفلة. انظر : المعجم الوسيط ١/٧٠ مادة ( بَلَه ).
(٣) سورة الأعراف : الآية ١٧٩.

القول الأول : أن المراد بذلك محمد - ﷺ -، فهو نذير بما أنذرت به الرسل قبله ؛ وبه قال أبوجعفر(١)، وقتادة(٢)، ومحمد بن كعب القرظي(٣)، وابن جريج(٤)، وبه قال جمهور المفسرين، وممن اختاره الفراء(٥)، والزجاج(٦)، والسمرقندي(٧)، والواحدي(٨)، والسمعاني(٩)، والبغوي(١٠)، وابن عطية(١١)، والرازي(١٢)، وأبو حيان(١٣)، وابن كثير(١٤)، والبقاعي(١٥)، والشوكاني(١٦)، والسعدي(١٧).
قال ابن عطية :" وقال : بمعنى أنه في الرتبة والمنْزلة، والأوصاف من تلك المتقدمة " (١٨).
القول الثاني : أنه القرآن، نذير بما أنذرت به الكتب المتقدّمة ؛ وروي عن قتادة(١٩).
وعلى هذا القول يكون مصدراً، وعلى القول الأول يكون اسم فاعل، منذر(٢٠).
(١) أخرجه ابن جرير ١١/٥٤٠.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/٢٥٥، وابن جرير ١١/٥٤٠، وانظر : الدر ٦/١٧٢.
(٣) ذكره عنه ابن عطية ٥/٢٠٩، والقرطبي ١٧/٧٩.
(٤) ذكره عنه الماوردي ٥/٤٠٦، وابن الجوزي ٧/٢٤٠.
(٥) معاني القرآن ٢/١٠٣.
(٦) معاني القرآن وإعرابه ٥/٧٨.
(٧) تفسيره ٣/٢٩٥.
(٨) الوسيط ٤/٢٠٥.
(٩) تفسيره ٥/٣٠٤.
(١٠) تفسيره ٧/٤٢٠ [ ط طيبة ].
(١١) تفسيره المحرر الوجيز ١٥/٢٨٨.
(١٢) تفسيره ٢٩/٢٣.
(١٣) تفسيره البحر المحيط ٨/١٦٧.
(١٤) تفسيره ٤/٢٧٨.
(١٥) نظم الدرر ١٩/٨١.
(١٦) تفسيره فتح القدير ٥/١٦٧.
(١٧) تفسيره ص٨٢٣.
(١٨) تفسير ابن عطية ٥/٢٠٩، وانظر : الفراء ٢/١٠٣، والرازي ٢٩/٢٣.
(١٩) ذكره عنه الماوردي ٥/٤٠٦، وابن الجوزي ٧/٢٤٠، والقرطبي ١٧/١٢١، والمعروف عنه الأول، والقرطبي ١٧/١٢١، ولم أرَ من اختاره.
(٢٠) انظر : تفسير ابن عطية ١٥/٢٨٨، وأبي السعود ٨/١٦٥.

والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى : أي : لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر، قال الألوسي :" ولم أرَ هذا مروياً عن أحد من السلف " (١).
القول الثالث : أن المراد المطهرون من الذنوب والخطايا، كالملائكة والرسل، وروي عن أبي العالية أنه قال :" ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب " (٢).
وقال ابن زيد عند هذه الآية :" الملائكة، والأنبياء، والرسل التي تنْزل به من عند الله مطهرة، والأنبياء مطهرة، فجبريل ينْزل به مطهر، والرسل الذين تجيئهم به مطهرون، فذلك قوله : ، والملائكة والأنبياء والرسل من الملائكة، والرسل من بني آدم فهولاء ينْزلون به مطهرون، وهؤلاء يتلونه على الناس مطهرون، وقرأ : ، قال : بأيدي الملائكة الذي يحصون على الناس أعمالهم " (٣).
وقال أبوالسعود :" مصون عن غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم " (٤)، والمراد بالكتاب على هذا اللوح المحفوظ.
والراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه من أن المراد بالكتاب المكنون اللوح المحفوظ، وأن المراد بالمطهرين الملائكة، وقد سبق ذكر أدلته على رجحان هذا القول، وقد شاركه في الاستدلال ببعضها بعض المفسرين كما تقدم إيراد ذلك عنهم.
وقد رجح ابن القيم أن المراد بالكتاب المكنون : الكتاب الذي بأيدي الملائكة
(١) تفسير الألوسي ٢٧/١٥٤.
(٢) أخرجه ابن جرير ١١/٦٦٠.
(٣) أخرجه ابن جرير ١١/٦٦٠، ونسبه القرطبي ١٧/١٤٦ لأنس، وابن جبير، وابن زيد، والكلبي.
(٤) تفسيره ٨/٢٠٠، وانظر : تفسير الألأوسي ٢٧/١٥٣، والسعدي ص٨٣٦.

ثم قال :" وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى : الخلق لأنه أخرجه من المعادن وعلمهم صنعته، فإن الحديد إنما يخلق في المعادن، والمعادن إنما تكون في الجبال، فالحديد ينْزله الله من معادنه التي في الجبال لينتفع به بنو آدم " (١).
وقال - رحمه الله – والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال، فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينْزل الآخر، حيث نزل الكتاب من الله كما قال تعالى :(٢).. والحديد أنزل من الجبال التي خُلق فيها " (٣).
الدراسة :
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : على أقوال خمسة :
(١) مجموع الفتاوى ١٢/٢٤٦ – ٢٥٧ بتصرف واختصار.
(٢) سورة الزمر : الآية ١.
(٣) مجموع الفتاوى ١٠/١٣، وانظر : الرد على المنطقيين ص٣٨٢.

ولا ريب أن ظاهر القرآن [ لا ] يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال : نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف " (١).
الدراسة :
اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : على أربعة أقوال(٢) :
القول الأول : أن المعنى : يوم يكشف الربُّ جلَّ جلاله عن ساقه الكريمة ؛ فهي من صفات الله - تعالى - الثابتة اللائقة بجلاله وعظمته، فلا تُعطَّل، ولا تكيف، ولا تشبه، ولا تأَوَّل (٣).
وقد دلت السنة على هذا المعنى، حيث وردت عدة أحاديث تؤيد هذا المعنى، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت النبي - ﷺ - يقول :" يَكْشف ربُّنا عن ساقه، فيسجد له كلُّ مؤمن ومؤمنه، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهرهُ طبقاً واحداً " (٤).
وفي رواية أخرى مطوَّلة لهذا الحديث :" فيقول أنا ربكم، فيقولون : أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونها ؟ فيقولون : الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً " (٥).
(١) مجموع الفتاوى ٦/٣٩٤.
(٢) وهناك أقوال أخرى ساقطة ومحدثة أعرضت عنها.
(٣) سورة الشورى : الآية ١١.
(٤) أخرجه البخاري ٨/٦٦٣ [ ط السلفية ] ح٤٩١٩، كتاب التفسير، باب.
(٥) أخرجه البخاري ١٣/٤٢١ [ ط السلفية ] ح٧٤٣٩، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى : ، ومسلم ١/١٦٧ ح١٨٣، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية بلفظ " فيكشف عن ساق ".

ضمير عائد على الله تعالى، أي وبناها هو، أي : الله تعالى كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً، فقلت : عجبت مما ضرب عمراً، تقديره : من ضرب عمرو، وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير، وقوله :( وما يؤدي إليه من فساد النظم ) ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر، وقوله :( إنما أوثرت إلخ ) لا يراد بـ( ما ) ولا بـ( من ) الموصولتين معنى الوصفية، لأنهما لا يوصف بهما بخلاف الذي فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما فلا ينفرد بها ما دون من " (١).
وقال السّمين :" واعترض على هذا القول : بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر : بناء السماء، وطحو الأرض، وتسوية النفس، وليس المقصود إلا القسم بفاعل هذه الأشياء، وهو الرب تبارك وتعالى.
وأجيب عنه بوجهين :
أحدهما : يكون على حذف مضاف، أي : ورب - أو باني - بناء السماء ونحوه.
والثاني : أنه لا غَرْوَ في الإقسام بهذه الأشياء، كما أقسم تعالى بالصبح ونحوه " (٢).
وإليه ذهب من قال : أن ( ما ) لا تقع على آحاد أولي العلم(٣).
واختار هذا القول بعض المفسرين، وممن اختاره الزجاج(٤)، النحاس(٥)، والمبرد(٦).
ومن المفسرين من أجاز حملها على المعنيين الموصولية والمصدرية، ومنهم الطبري(٧)، وابن عطية(٨)، وابن كثير(٩) وقال :" وكلاهما متلازم "، والشوكاني(١٠).
(١) تفسيره ٨/٤٧٣، وانظر : فتح القدير ٥/٦٤٥.
(٢) الدر المصون ١١/٢٠.
(٣) تفسير أبي حيان ٨/٤٧٣، وانظر : السمين ١١/١٨.
(٤) معاني القرآن ٥/٣٣٢.
(٥) الإعراب ٥/٣٣٢.
(٦) ذكره عنه ابن عطية ٦/٣١١، وغيره.
(٧) تفسيره ٢٤/٤٣٨ [ ط التركي ].
(٨) تفسيره ١٦/٣١١.
(٩) فتح القدير ٤/٥٥١.
(١٠) تفسيره ٥/٦٤٥.

وضعفَّه ابن القيم بأن الاستثناء عام في المؤمنين قارئهم وأميهم، وأنه لا دليل على ما ادعوه، وهذا لا يعلم بالحس ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه(١).
القول الثالث : أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد يدخلون في الذين رُدُّوا إلى أسفل سافلين ؛ لأن أرذْل العمر قد يرد إليه المؤمن والكافر... وإنما معنى الاستثناء : ثم رددناه أسفل سافلين فذهبت عقولهم، وانقطعت أعمالهم، فلم تثبت لهم بعد ذلك حسنة، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؛ فإن الذي كانوا يعملونه من الخير في حال صحة عقولهم وسلامة أبدانهم جار لهم بعد هرمهم وخرفهم(٢).
وبهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما –(٣)، وإبراهيم النخعي(٤)، وعكرمة(٥)، وقتادة(٦)، ورجح ابن جرير هذا القول، بناءً على ترجيحه أن المراد بقوله تعالى : إلى أرذل العمر(٧).
واختاره بعض المفسرين، وممن اختاره ابن جرير كما تقدم، والثعلبي(٨).
(١) التبيان ص٣٢.
(٢) انظر : تفسير ابن جرير ٢٤/٥١٧ [ ط التركي ].
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٤/٥١٧ [ ط التركي ]، وعنه رضي الله عنه :" يُوفيه الله أجره أو عمله ولا يؤاخذه إذا رُدَّ إلى أرذل العمر " المصدر السابق ٢٤/٥٢٠، وعنه :" هم نفرٌ ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله - ﷺ -، فسئل رسول الله - ﷺ - حيث سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجر الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم " المصدر السابق ٢٤/٥١٣، وانظر : الدر ٦/٦٢٠.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٤/٥١٨ - ٥١٩ [ ط التركي ].
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٤/٥٢٠ [ ط التركي ]، وانظر : الدر ٦/٦٢١.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٤/٥٢٠ [ ط التركي ].
(٧) تفسير ابن جرير ٢٤/٥٢١ [ ط التركي ].
(٨) تفسيره ١٠/٢٤١.

قلت : هذا هو الذي قطع به أكثر المفسرين ولم يذكر الثعلبي والبغوي وغيرهما سواه، وأبو العالية إنما قال : الكتاب لم يقل : القرآن. هكذا رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف عن الربيع بن أنس : قال : قال أبو العالية : الكتاب. ومراد أبي العالية جنس الكتاب، فيتناول الكتاب الأول كما قال : في موضعين من القرآن(١)، وقال تعالى : ، ثم قال :(٢)، وهذا التفسير معروف عن أبي العالية ورواه عن أبي بن كعب، ورواه ابن أبي حاتم وغيره عن الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : وأن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف، قال : أنزل الكتاب عند الاختلاف، يعني بني إسرائيل، أوتوا الكتاب والعلم يقول : بغياً على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضهم على بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض يقول : فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بلغتهم وأنهم كذبوا رسلهم " (٣).
الدراسة :
البينة : الحجة الظاهرة التي بها يتميز الحق من الباطل، فهي من البيان أو البينونة ؛ لأنها تبين الحق من الباطل(٤).
واختلف المفسرون في المراد بالبينة في الآية على أقوال خمسة :
(١) سورة هود : الآية ١١٠، وسورة فصلت : الآية ٤٥.
(٢) سورة البقرة : الآية ٢١٣.
(٣) مجموع الفتاوى ١٦/٥١٣.
(٤) انظر : تفسير الرازي ٣٢/٤٠، والألوسي ٣٢/٢٠١.

وقال ابن كثير :" وثمَّ قول رابع نصره أبو العباس ابن تيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله : نفي الفعل لأنها جملة فعلية، نفي قبوله لذلك بالكلية ؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفي الفعل، وكونه قابلاً لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً، وهو قول حسن أيضاً، والله أعلم" (١).
الدراسة :
اختلف المفسرون في وجه تكرار البراءة من الجانبين في السورة على أقوال ثمانية :
القول الأول : أنه لتأكيد الأمر، وحسم أطماعهم فيه، فقوله : توكيد، وقوله :
ثانياً تأكيداً لقوله : أولاً(٢).
وأجازه ابن قتيبة، وقال :"ولا موضع أولى بالتكرار للتوكيد من السبب الذي أنزلت فيه لأنهم أرادوه على أن يعبد ما يعبدون، ليعبدوا ما يعبد، وأبدأوا في ذلك وأعادوا، فأراد الله – عزَّ وجل – حسم أطماعهم وإكذاب ظنونهم، فأبدأ وأعاد في الجواب، وهو معنى قوله :(٣)، أي : تلين لهم في دينك، فيلينون في أديانهم " (٤).
وقال الثعلبي :" قال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز..." (٥).
(١) تفسيره ٨/٥٠٨ [ ط طيبة ].
(٢) تفسير أبي حيان ٨/٥٢٢.
(٣) سورة القلم : الآية ٩.
(٤) تأويل مشكل القرآن ص٢٣٧، وانظر : تفسير الثعلبي ١٠/٣١٧.
(٥) تفسيره ١٠/٣١٥.

قال الرازي :" وإنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل ؛ لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوامُّ من مكانها، ويهجم السارق والمكابر، ويقع الحريق ويقلُّ فيه الغوث، وتنتشر الشياطين " (١).
القول الثالث : أنه كوكب ؛ وبه قال أبو هريرة(٢)، وعن ابن زيد أنه قال عند هذه الآية :" كانت العرب تقول : الغاسق : سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها " (٣).
القول الرابع : قال ابن شهاب :" الغاسق سقوط الثريا، والغاسق إذا وقب : الشمس إذا غربت " (٤).
قال ابن جزي :" والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الدخول " (٥).
وقال الشوكاني: " وكأنه لاحظ معنى الوقوب، ولم يلاحظ معنى الغسوق " (٦).
ويرى شيخ الإسلام كما تقدم أن هذه الأقوال متلازمة، وليست متعارضة ؛ لأن القمر آية الليل، وكذلك الكواكب إنما ترى في الليل فهي آية الليل وعلامته، وقد وافق شيخَ الإسلام في هذا المذهب النحاسُ، فإنه يرى أن الأقوال متفقة، وتقدم ذكر كلامه.
(١) تفسيره ٣٢/١٧٨ بتصرف يسير، وانظر : بدائع الفوائد ٢/٣٥٧، والسعدي ص٩٣٧.
(٢) أخرجه ابن جرير ١٢/٧٤٨، ورُوي مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - أخرجه ابن جرير ١٢/٧٤٨، وعزاه في الدر ٦/٧١٨ أيضاً لأبي الشيخ وابن مردويه.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٢/٧٤٩، وعزاه في الدر ٦/٧١٨ لأبي الشيخ.
(٤) الدر ٦/٧١٨.
(٥) تفسيره ٢/٦٢٩.
(٦) فتح القدير ٥/٧٥٨.

فكيف يُعطفون على وهم لا يوسوسون ؟ فقال : هم معطوفون على الوسواس، والتقدير : قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس والناس، والذي قال حسنٌ ؛ لأن التقديم والتأخير في الواو حسن كثير، كما قال(١) :
جَمَعتَ وفحشاً غيبةً ونميمةً ثلاثَ خصال لستَ عنها بِمُرعَوي
وقال حسان(٢) :
وما زال في الإسلام من آل هاشم دعائم غُرٍ ما تُرام ومَفْخرُ
وهم حَبلُ الإسلام والناس حولهم رِضام(٣) إلى طود(٤) يروق ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمِّه علي ومنهم أحمد المُتَخَيَّرُ " (٥)
وبه قال مكي، وقال :" ولا يجوز عطفه على الجنّة ؛ لأن الناس لا يوسوسون في صدور الناس، إنما يوسوس الجنُّ، فلما استحال المعنى حُمل على العطف على الوسواس " (٦)، واختاره الواحدي(٧).
قال السَّمين :" وفيه بُعد كبير للَّبس الحاصل، وقد تقدم أن الناس يوسوسون أيضاً بمعنى يليق بهم " (٨).
وتقدم تضعيف شيخ الإسلام لهذا القول من جهة اللفظ والمعنى.
والراجح – والله أعلم – القول الأول، وهو قول شيخ الإسلام ومن وافقه، لدلالة القرآن والسنة على أن من الإنس شياطين يوسوسون، ولوروده عن قتادة، وأما الأقوال الأخرى ففيها تكلُّف في المعنى، وعدم اتِّساق في اللفظ.
(١) البيت ليزيد بن الحكم بن العاص الثقفي، انظر : أمالي القالي ١/٦٧، والخزانة ١/٤٥٩.
(٢) ديوانه ص١٨٠.
(٣) الرِّضام : الحجارة البيض. انظر : المعجم الوسيط ١/٣٥١، مادة (رضم).
(٤) الطّود : الجبل العظيم. انظر : مختار الصحاح ص١٧٩، مادة (طود).
(٥) الإعراب ٥/٣١٦.
(٦) إعراب المشكل ٢/٥٨٧.
(٧) الوسيط ٤/٥٧٥.
(٨) الدر المصون ١١/١٦٤.

" مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة "... أبو موسى... ٦٣٣
" من لم يسأل الله يغضب عليه "... أبو هريرة... ٣٠٢
" من سره أن يبسط له في رزقه "... أنس بن مالك... ٢٣٧
" نحن معاشرَ الأنبياء لا نُوْرَث "... أبو هريرة... ٨٩
" نزلت هذه الآية في خمسة "... أبو سعيد الخدري... ٢٢٦
" هؤلاء كلهم بمنْزلة واحدة، وكلهم في الجنة "... أبو سعيد الخدري... ٢٤٥
" هل لأمي إن تطوعت عنها ؟ قال : نعم "... سعد... ٤٢٦
" هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها "... سعد بن أبي وقاص... ٦٧٠
" هو مسجدي هذا "... أبو سعيد... ٢٢٦، ٧١٠
" وإن خالط كَلْبَكَ كلابٌ أخرى، فلا تأكل "... عدي بن حاتم... ٤٣٤
" والخير بيديك والشر ليس إليك "... علي... ٦٢٠
" والله ما الفقر أخشى عليكم "... عمرو بن عوف... ١١٥
" ولا يتكلم أحد إلا الرسل "... أبو هريرة... ٥٥١
" يا أبا ذر ! تعوذ بالله "... أبو ذر... ٧١٥
" يا عائشة تعوَّذي بالله من شره "... عائشة... ٦١، ٧٠٩، ٧١١
" يطوي الله السموات يوم القيامة "... عبد الله بن عمر... ٢٨٩
" يقال : لجهنم هل امتلأت ؟ "... أبو هريرة... ٣٩٥
" يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه "... أبو هريرة، وعبد الله بن عمر... ٢٨٩
" يَكْشف ربُّنا عن ساقه، فيسجد له كلُّ مؤمن "... أبو سعيد الخدري... ٤٩٧
" يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم "... أبو سعيد الخدري... ٤٦١
++++
فهرس الآثار
طرف الأثر... القائل... رقم الصفحة
إذا أراد الله عزّ وجل بعبده خيراً ألهمه الخير... محمد بن كعب... ٦١٠
إذا بلغت نفسه يرقى بها... ابن عباس
إذا فرغت من أمر دنياك فانصب، فصلِّ... قتادة
إذا فرغت من أمر دنياك وقمت إلى الصلاة... قتادة
إذا فرغت من صلاتك وتشهدت فانصب... ابن عباس
إضاعتها صلاتها لغير وقتها... ابن مسعود... ١٠١
أضاعوا المواقيت... القاسم بن مخيمرة
أفلح من زكى نفسه بالعمل الصالح... الربيع
إلا بالتى هي أحسن، فإن قالوا شراً فقولوا خيراً... مجاهد
إلا ما أريد به وجهه... أبو العالية
ألزمها فجورها وتقواها... ابن عباس، وسعيد بن جبير
ألهمها الخير والشر... سعيد بن جبير


الصفحة التالية
Icon