ثامناً: التفسير الكبير لفخر الدين الرازي ت٦٠٦هـ (١):
يظهر تأثر الرازي به في تفسيره فيما يلي :
١ - كتاب الزجاج من المصادر الرئيسة في تفسير الرازي إذ تردد اسم الزجاج عند الرازي في خمسمائة وتسع وأربعين مرة تقريباً.
٢ - طريقة الرازي في النقل عن الزجاج تختلف من موضع لآخر فالذي يبدو أن الرازي أحياناً ينقل من كتاب الزجاج مباشرة، وأحياناً ينقل أقواله عن طريق الأزهري
(ت٣٧٠هـ)(٢)، وأحياناً ينقل أقوال الزجاج عن طريق الواحدي (ت٤٦٨هـ) في تفسيره(٣)، بل ويصرح بنقله عن طريق كتابه تفسير "البسيط" للواحدي(٤)، وأيضاً ينقل عن طريق الواحدي بالإسناد عن كتاب الزجاج ؛ لأن الواحدي كما سبق ينقل عن كتاب الزجاج بالإسناد أحياناً (٥).
٣ - مكانة الزجاج كبيرة عند الرازي، ويدل على ذلك أمران :
أحدهما : وهو الأهم أنه كثيراً ما يصدر أقواله عند ابتداء المسائل فيقول مثلاً: المسألة الأولى أو الثانية :" قال الزجاج " (٦).
ثانيهما : كثرة نقوله عنه في مسائل التفسير والنحو واللغة كما سبق.

(١)... محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن فخر الدين القرشي البكري ثم الرازي المفسر المتكلم إمام وقته في العلوم العقلية له التفسير الكبير، والمحصول في الأصول وشرح المفصل للزمخشري توفي سنة ٦٠٦هـ، وقيل غير ذلك. انظر : طبقات المفسرين للسيوطي ص١١٥، طبقات الداوودي ٢/٢١٥، ٢١٦.
(٢)... انظر : تفسير الرازي ١٢/١٣٥.
(٣)... تفسير الرازي ١٢/١٦٤، مع تفسير البسيط للواحدي ١/١٦٧ بتحقيق د/ الفايز، ومعاني القرآن وإعرابه ٢/٢٤٢.
(٤)... تفسير الرازي ٢١/١٤.
(٥)... المصدر نفسه ٢٠/٨٠، وانظر : ص ١٢٩، عند الحديث على تأثر الواحدي.
(٦)... والأمثلة كثيرة على هذه الكيفية انظر في تفسير الرازي للمواضع التالية ٩/١٧، ١٠/١٤٣، ١٥٥، ١١/٩٣، ١٢/١٥١، ١٣/١٢٦، ١٤٣، ٣٠/٢١٧ وغير ذلك.

ومن استعانته بأقوال المفسرين في اختياراته ما ذكره عند قوله تعالى ﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾ (١)، حيث ذكر الزجاج الاختلاف في معنى النكاح في الآية، وهل هو الوطء أو التزويج، واختار أبو إسحاق : أنه على معنى التزويج حيث قال :" فهذا تزويج لا شك، " ثم راح يقوي اختياره هذا بأنه مروي عن الحسن البصري (١١٠هـ)، حيث قال " ويروى عن الحسن أنه قال :" إن الزاني إذا أقيم عليه الحد لا يزوج إلا بامرأة أقيم عليها الحد مثله، وكذلك المرأة إذا أقيم عليها الحد عنده لا تزوج إلا برجل مثلها " (٢).
ومع أن الزجاج من أهل اللغة المعتبرين، وقد كان مجلاً لأقوال أهل اللغة واثقاً بهم وبعلمهم إلا أنه مع ذلك يختار أقوال المفسرين على ما يذكره أهل اللغة، كاختياره في قوله تعالى ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ (٣)، حيث ذكر قول المفسرين في معنى الصور واختاره واستدل له، ورد قول أهل اللغة في أنه جمع صورة(٤).
(١)... النور : ٣.
(٢)... معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٩، ٣٠، وانظر قول الحسن في مستدرك الحاكم ٢/٢١١ رقم الأثر ٢٧٨٤، وفي تفسير ابن أبي حاتم ٨/٢٥٢٤، وقد روي مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - من حديث أبي هريرة، ولفظه :" لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " أخرجه أحمد في المسند ٢/٣٢٤ رقم الحديث : ٨٢٨٢، أبو داود في سننه : ٢٠٥٢، والبيهقي في الكبرى : ١٣٦٥٩، والحاكم في المستدرك
٢/١٨٠، وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ٢/١٢٨٨.
(٣)... المؤمنون : ١٠١.
(٤)... انظر : ص٢١٦، ٢١٧ من هذه الرسالة.

ومن اختياراته بالحديث إذا ثبت بالأسانيد الصحيحة، ما ذكره عند أول سورة القمر في مسألة انشقاق القمر حيث اختار قول الجمهور في أن الانشقاق كان على عهد النبي - ﷺ - (١)، وذكر القول الآخر : أن القمر ينشق يوم القيامة (٢)، واختار القول الأول وهو أن القمر انشق على عهد النبي - ﷺ -، وأيد هذا الاختيار بأحاديث صحيحة ساقها بأسانيدها في أربع صفحات تقريباً في بيان انشقاق القمر في عهد رسول الله - ﷺ - حيث قال: "قال أبو إسحاق :" وجميع ما أملي عليكم في هذا فهو مما حدثني به إسماعيل بن إسحاق ثم ساق بسنده إلى أنس رضي الله عنه : أن أهل مكة سألوا النبي - ﷺ - آية فأراهم القمر مرتين انشقاقه، وكان يذكر هذا الحديث عند هذه الآية :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ (٣)
(١)... وهو قول جمهور المفسرين كما قال ابن عطية في المحرر الوجيز ٥/٢١١، والقرطبي في تفسيره ١٧/١٢٥، بل نقل ابن الجوزي في زاد المسير ٨/٨٨ : الإجماع على هذا القول، وقال ابن كثير ٢٦٢: وهو أمر متفق عليه بين علماء الأمة : أن انشقاق القمر وقع في زمان النبي - ﷺ -، وانظر : تفسير الطبري ٢٧/٨٤.
(٢)... روي هذا القول عن عطاء كما في زاد المسير ٨/٨٨ وعلق عليه ابن الجوزي بقوله : وهو قول شاذ لا يقاوم الإجماع، ونقل ابن عطية في المحرر ٥/٢١١ عن الثعلبي : بأن بعض المفسرين قال بذلك، وقال الزمخشري في الكشاف ٤/٤٣١ " وهو قول لبعض الناس ".
(٣)... سورة القمر : ١..

ت٣٣٨هـ) :"وما علمت أن أحداً من النحويين إلا خطأ سيبويه في هذا"، ثم نقل عن الزجاج سماعاً منه من غير كتابه : المعاني قوله: "سمعت أبا إسحاق [يعني: الزجاج] يقول: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما " (١).
والحاصل : أن الزجاج يعتني بالإعراب الموافق للتفسير والسياق، ويرفض الأوجه الإعرابية المخالفة للسياق وهذا على الأغلب الأعم.
وربما - وهذا قليل- أن الزجاج أجاز وجهاً إعرابياً مخالفاً للسياق القرآني وذلك في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (٢) حيث قال: " موضع "من" نصب ورفع، أما من نصب فعلى تأويل الكاف، المعنى: فإن الله يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وأما من رفع فعلى العطف على الله والمعنى: فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين " (٣).
والزجاج هنا أجاز وجهين في الموقع الإعرابي لقوله :"من اتبعك" :
الأول : أن تكون "من" في محل نصب عطفاً على محل الكاف في قوله :"حسبك" فإن محلها النصب، فهي في معنى : كافيك، أي : الله يكفيك ويكفي من اتبعك وهذا الإعراب لا إشكال فيه، وبه قال الطبري (ت٣١٠هـ) واختاره النحاس (ت٣٣٨هـ)(٤).
الثاني : جعل " من " في محل رفع عطفاً على الله تعالى، ومعناه : حسبك الله وأتباعك من المؤمنين، وهذا الوجه الذي أجازه الزجاج هو موضع الإشكال، وقد اختاره الفراء (ت٢٠٧هـ)(٥)، واستظهره أبو حيان (ت٧٤٥هـ) (٦) والسمين الحلبي
(ت٧٥٦هـ) (٧).
(١)... إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٤، وانظر : البحر المحيط ٦/١٩٦.
(٢)... سورة الأنفال : ٦٤.
(٣)... معاني القرآن وإعرابه ٢/٤٢٣.
(٤)... تفسير الطبري ١٠/٣٧، إعراب القرآن للنحاس ٢/١٩٤.
(٥)... معاني الفراء ١/٤١٧.
(٦)... البحر المحيط ٤/٥١٠.
(٧)... الدر المصون ٣/٤٣٣.


الصفحة التالية
Icon