٤ - لم يقتصر الرازي على كتاب الزجاج بنقل آرائه فقط بل إنه اتخذه مصدراً لنقل آراء المتقدمين من أهل التفسير واللغة كنقله عنه أقوال ابن عباس (ت٦٨هـ)(١)، وآراء الخليل (ت١٧٥هـ) وسيبويه (ت١٨٠هـ) والمبرد (ت٢٨٥هـ) (٢) وغيرهم.
٥ - يختلف الرازي في النقل عن الزجاج طولاً وقصراً فربما أطال في النقل عنه كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ (٣)، فقد نقل عن الزجاج الأوجه المختلف فيها في تفسير الآية (٤)، وربما اكتفى بعبارة قصيرة جداً نقلها عن الزجاج كما سيأتي.
٦ - ربما ذكر قول الزجاج في غير موضعه من الآية (٥).
٧ - أهم القضايا التي تأثر بها الرازي بكتاب الزجاج :
أ - العقيدة :
مع وجود الملحوظات على تفسير الرازي في قضايا العقيدة إلاَّ أن الزجاج بعقيدته الصحيحة أثر على الرازي، فقد استشهد الرازي بتفسير الزجاج في الرد على المعتزلة في مسألة: أن العبد يخلق فعل نفسه حيث ذكر عند قوله تعالى :﴿ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ (٦) قال :" قال الزجاج : أي أضلهم اللَّه " (٧)، وذلك في إثبات المشيئة لله وأنه سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء (٨).
ب - التفسير :

(١)... المصدر نفسه ٢٢/٨.
(٢)... المصدر نفسه ١٩/١٤٥، ٢١/١١٧.
(٣)... سورة النساء : ٤٣.
(٤)... تفسير الرازي ١١/١٢ مع معاني القرآن وإعرابه ٢/٩٥، ٩٦.
(٥)... تفسير الرازي ٥/٩٠ مع معاني القرآن وإعرابه ١/٢٦٩.
(٦)... سورة التوبة : ١٢٧.
(٧)... تفسير الرازي ١٦/١٨٦ مع معاني القرآن وإعرابه ٢/٤٧٧.
(٨)... وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وأول من قال بأن العبد يخلق أفعاله هو معبد بن خالد الجهني وصلبه عبد الملك بن مروان على قوله في القدر سنة ٨٠هـ.
... انظر : عقيدة السلف وأصحاب الحديث للإمام الصابوني ص٢٨٠، تقريب التهذيب،
ص٥٣٩.

ومن نصه على اختيار أقوال المفسرين ما ذكره في افتتاح سورة البقرة في معنى الحروف المقطعة حيث ذكر الأقوال في معناها، ثم اختار قول ابن عباس (ت٦٨هـ)، حيث قال :" والذي أختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله عز وجل: ﴿ الم ﴾ (١)، بعض ما يروى عن ابن عباس رحمة الله عليه وهو أن المعنى ﴿ الم ﴾ أنا الله أعلم(٢)، وأن كل حرف منها له تفسيره(٣) " ثم راح يستدل لذلك.
ومما يلاحظ على أبي إسحاق الزجاج اهتمامه بأقوال وآراء الحسن البصري
(ت١١٠هـ)، حتى إن الزجاج أفاد منه قرابة الخمسين موضعاً من كتابه مما يدل على عنايته بأقوال الحسن، وكثيراً ما أراه يختار أقواله ويرجحها، ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى ﴿ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ﴾ (٤)، قال :" يروى عن الحسن أنه قال : لا يأب الشهداء إذا ما دعوا لابتداء الشهادة أي : ولا يأبوا إذا دعوا لإقامتها(٥)، وهذا الذي قال الحسن هو الحق - والله أعلم - لأن الشهداء إذا أبوا وكان ذلك لهم أن يشهدوا تويت حقوقهم(٦)، وبطلت معاملاتهم فيما يحتاجون إلى التوثق فيه " (٧).
٢ - تأثره باللغوين في اختياراته :
(١)... البقرة : ١.
(٢)... أخرجه الطبري ١/٨٨، وابن أبي حاتم ١/٣٢، وعزاه في الدر المنثور ١/٥٦ لعبد بن حميد وابن المنذر.
(٣)... معاني القرآن وإعرابه ١/٦٢.
(٤)... البقرة : ٢٨٢.
(٥)... تفسير الطبري ٣/١٢٧، وانظر : الدر المنثور ٢/١٢٢.
(٦)... تويت بمعنى ذهبت وبطلت وهلكت يقال : أتوى فلان ماله إذا ذهب به، والمعنى: أن الشهداء إذا أبوا الشهادة ذهبت وضاعت حقوق المتعاملين. انظر : معجم مقاييس اللغة، ص ١٥٨، لسان العرب ١٤/١٠٦.
(٧)... معاني القرآن وإعرابه ١/٣٦٤، ٣٦٥.

" (١)، ثم ذكر الزجاج أحاديث انشقاق القمر بأسانيد لنفسه إلى النبي - ﷺ -، وبعض هذه الأسانيد يلتقي فيها سنده بأسانيد البخاري ومسلم كالحديث الذي ساقه بسنده إلى الأعمش (ت١٤٧هـ)(٢)، وهو من شيوخ البخاري ومسلم في هذا الحديث إلى عبدالله بن مسعود (ت٣٢هـ) رضي الله عنه أنه قال :" انشق القمر ونحن مع النبي - ﷺ - فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله - ﷺ - : اشهدوا " (٣).
(١)... معاني القرآن وإعرابه ٥/٨١، وحديث أنس الذي ساقه الزجاج بسنده أصله في الصحيحين لكن ليس عندهما التصريح بسبب النزول كما سيأتي في تخريج الحديث الآتي، والحديث أخرجه الترمذي في تفسير القرآن، باب "ومن سورة القمر" ٥/٣٩٧ رقم الحديث ٣٢٨٦، والحديث صحيح فقد قال عنه الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ مقبل الوادعي في كتابه : الصحيح المسند من أسباب النزول ص٢٣٤، والحديث له شواهد صحيحة بلغت عند كثير من أهل العلم حد التواتر كما سيأتي في قول ابن كثير.
(٢)... سليمان بن مهران أبو محمد الأسدي شيخ المقرئين والمحدثين رأى أنس بن مالك وحكى عنه، وروى عنه أبو حنيفة والأوزاعي وشعبة وخلق كثير، ثقة ثبت إمام مات سنة ١٤٧هـ وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء ٦/٢٢٦.
(٣)... أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب : انشقاق القمر ٣/١٤٠٤، رقم الحديث ٣٦٥٦، ومسلم في صفات المنافقين، باب انشقاق القمر ٤/٢١٥٨، رقم الحديث ٢٨٠٠.

ووجه ضعف هذا القول أن الحسب هو الكافي، ولا يصح صرف هذا إلا لله تعالى كالرغبة والرهبة وسائر أنواع العبادات.
يقول الإمام ابن تيمية (ت٧٢٨هـ) :" وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية: أن الله والمؤمنين حسبك، ويكون " من اتبعك " رفعاً عطفاً على الله، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر، فإن الله وحده حسب جميع الخلق " (١).
وقد رد هذا الوجه أيضاً في إعراب الآية الإمام ابن القيم (ت٧٥١هـ)، حيث قال :"وهذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن "الحسب" و"الكفاية" لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادات " (٢).
لكن لابد من البيان إلى أن من أجاز رفع محل "من " عطفاً على الله قد قدروا الآية بتقدير يختلف عن تقدير الإمامين ابن تيمية (ت٧٢٨هـ) وابن القيم (ت٧٥١هـ)، حيث قال أبو حيان (ت٧٤٥هـ): "والظاهر رفع (من) عطفاً على ما قبله، وعلى هذا فسره الحسن وجماعة أي حسبك الله والمؤمنون قال ابن زيد :" معنى الآية : الله حسبك وحسب من اتبعك "(٣).
٢ - يعتمد الزجاج الأوجه الإعرابية القوية والمشهورة دون الأوجه الضعيفة والغريبة والشاذة، حيث صرح أبو إسحاق بهذا في كتابه وذلك عند تفسير قوله تعالى :﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ (٤) قال: " قد فسرنا أنه لا يجوز في الكلام إلا "رب العالمين. الرحمن الرحيم" [ يعني بالجر] وإن كان الرفع والنصب جائزين في الكلام، ولا يتخير لكتاب الله عز وجل إلا اللفظ الأفضل الأجزل " (٥).
(١)... منهاج السنة لابن تيمية ٧/٢٠٤، ٢٠٥.
(٢)... زاد المعاد لابن القيم ١/٣٦.
(٣)... البحر المحيط ٤/٥١٠.
(٤)... سورة الفاتحة : ٢-٣.
(٥)... معاني القرآن وإعرابه ١/٤٦.


الصفحة التالية
Icon