فالآية جعلت أن جميع العهود منتهية بعد أربعة أشهر، بينما في الحديث خصص ذلك بمن لم يكن له مدة محددة لنهاية عهده، فعند عدم تخصيص ما جاء في الآية بمن لم يكن له مدة محددة وبخفاء هذا المراد ينشأ موهم التعارض بين ما جاء في ظاهر الآية وما جاء في الحديث(١).
١٥- احتمال الدليل أكثر من معنى:
عندما يحتمل الدليل أكثر من معنى ثم يأتي دليل يخصص هذا الدليل بمعنى دون غيره من المعاني المحتملة ويخالف ظاهر الدليل ينشأ موهم التعارض.
مثاله: قوله تعالى: ﴿ î‰إfَ،yJ©٩ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ '،xmr& أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ ڑْïحچخdg©ـكJّ٩$# ﴾ (٢).
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - ﷺ - في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أي المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: (هو مسجدكم هذا) لمسجد المدينة(٣).
فالحديث خصص المسجد الذي أسس على التقوى بمسجد النبي - ﷺ - بينما ظاهر الآية يحتمل أيضاً مسجد قباء، فعند جهل جواز احتمال الدليل لأكثر من معنى ينشأ موهم التعارض(٤).
١٦- أن يأتي الكلام الموهم للتعارض في الدليل على لسان الغير:
كأن يكون من كلام الكفار أو غيرهم وليس من كلام الله تعالى أو كلام رسوله - ﷺ - فيتوهم بسببه التعارض بين الأدلة ويكون سبباً لنشوء موهم التعارض.
مثاله: قوله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا $sYoKّ¤إ_ بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ 'إ١ح'$tFخ/ $sYدGygد٩#uن عَنْ y٧د٩ِqs% وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ (٥).
(٢) سورة التوبة: الآية (١٠٨).
(٣) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، رقم (١٣٩٨).
(٤) انظر ص (٢٤٢).
(٥) سورة هود: آية (٥٣).
إن هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها وهي قوله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ د‰إfَ،yJّ٩$# دQ#uچysّ٩$#... ﴾ (١) الآية، فهذه الآية أثبتت استحقاقهم للعذاب بسبب صدّهم الناس عن المسجد الحرام، وبذلك لا يكون هناك تعارض بين وقوع العذاب لهم يوم بدر، وبين نفيه كما في الآية الأولى المنسوخة.
وذهب إلى هذا القول عكرمة(٢) والحسن(٣).
فقد أخرج الطبري وابن أبي حاتم في تفسيرهما عن عكرمة والحسن قالا: قال في الأنفال: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ ِNخkژدù وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ فنسختها الآية التي تليها ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ﴾... إلى قوله: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾. فقوتلوا بمكة، وأصابهم فيها الجوع والحصر(٤).
الدّراسة والترجيح
الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الراجح مما تقدم من أقوال العلماء هو القول الثاني من مسلك الجمع وهم القائلون بتقييد العذاب في الآية بعذاب الاستئصال والنبي - ﷺ - مقيم فيهم بمكة، وعند ذلك يخرج من مراد الآية ما أصاب المشركين من عذاب يوم بدر ولم يكن فيه استئصال كما جاء في الحديث، وما أصابهم من العذاب بمكة والنبي - ﷺ - فيهم فلم يكن فيه استئصال لجميع المشركين، وبذلك يمكن الجمع والتأليف بين الأدلة.
وقد اعترض على هذا القول بما يلي:
١- إن التقييد للعذاب بالاستئصال لا دليل عليه.
وأجيب عليه:
(٢) انظر تفسير الطبري (٩/٢٩٧)، تفسير ابن أبي حاتم (٥/١٦٩٣)، المحرر الوجيز (٦/٢٨٦)، زاد المسير
(٣/٣٥٢).
(٣) نفس المصادر السابق.
(٤) سبق تخريجه ص (٥٣).
وعلى هذا فالذي يظهر أن الراجح هو القول الأول وهو إخراج أهل الكبائر من أهل التوحيد من النار وعدم خلودهم فيها وتأخرهم عن دخولهم الجنة، وهذا ما تدل عليه الأدلة الأخرى المبَيِّنة والمفسرة لهذا الاستثناء، ومنها ما يلي:
عن أنس رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: (يخرج قوم من النار بعدما مسهم منها سفع(١)، فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين(٢))(٣).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي - ﷺ - قال: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - ﷺ - فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين)(٤).
(٢) الجهنميين جمع جهنمي نسبة إلى جهنم.
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (٦٥٥٩).
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة، رقم (٦٥٦٦).
١٢- الأحاديث الواردة في فضائل المدينة، صالح الرفاعي، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، السعودية، الطبعة الثانية، ١٤١٥ه.
١٣- أحكام أهل الذمة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: صبحي الصالح، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة، ١٩٩٤م.
١٤- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، علي الماوردي، المكتبة العالمية، بغداد، ١٤٠٩ه.
١٥- الأحكام السلطانية، أبو يعلى محمد الفراء، تحقيق: محمد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤٠٣ه.
١٦- الإحكام في أصول الأحكام، علي الآمدي، تعليق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٢ه.
١٧- الإحكام في أصول الأحكام، علي بن حزم الأندلسي، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٤١٣ه.
١٨- أحكام القرآن للجصاص، أحمد الجصاص، المكتبة التجارية، مكة.
١٩- أحكام القرآن للشافعي، جمع: أحمد البيهقي، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٠ه.
٢٠- أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، تحقيق: علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت.
٢١- أخذ الميثاق في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ y٧ڑ/u' مِنْ ûسة_t/ آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ﴾، عبد العزيز العثيم، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٩ه.
٢٢- أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها، بدران أبو العينين، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية.
٢٣- الأربعين في دلائل التوحيد، أبو إسماعيل الهروي، تحقيق: علي الفقهي، الطبعة الأولى، ١٤٠٤ه.
٢٤- إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان، مرعي الكرمي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤ه.
٢٥- إرشاد ذوي العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، محمد العمادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبيعة الثانية، ١٤١١ه.
٢٦- إرشاد الفحول، إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد الشوكاني، تحقيق: شعبان محمد إسماعيل، دار الكتبي، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٤١٣ه.