وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)(١).
فالآية تدل على أن هود عليه السلام ما أتى بآية لقومه، بينما الحديث فيه الدلالة على أن كل الأنبياء قد آتاهم الله تعالى آية من آياته العظيمة، فعند جهل أن ما جاء في الآية هو على لسان الكفار وليس من كلام الله تعالى ينشأ موهم التعارض(٢).
١٧- الجهل بصفات الله تعالى ومعناها:
عند جهل معنى صفات الله تعالى وتصور التعارض في ظاهرها ينشأ موهم التعارض.
مثاله: قال تعالى: ﴿ إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ (٣).
وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن النبي - ﷺ - قال: (اربعوا(٤)على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم)(٥).
فالآية فيها الدلالة على أن الله تعالى استوى على عرشه وفي الحديث أنه سميع قريب من عباده فكيف يجتمع استواء الله على عرشه مع قربه من عباده ؟
وبذلك ينشأ موهم التعارض عندما يجهل معنى صفات الله تعالى(٦).

(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - ﷺ - بعثت بجوامع الكلم، رقم
(٦٨٤٦)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، رقم (١٥٢).
(٢) انظر ص (٣٣٥).
(٣) سورة الأعراف: (٥٤).
(٤) ارْبَعوا: جمع ارْبَع، أي: ارفق وانتظر على نفسك، انظر غريب الحديث للخطابي (٣/٩٣)، الغريبين في القرآن والحديث (٣/٧٠٥-٧٠٦).
(٥) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم (٣٩٦٨)، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، رقم (٢٧٠٤).
(٦) انظر ص (١٠٢).

بأنه لو لم يُقيد العذاب بالاستئصال لكان في ذلك إشكال وتعارض مع ما أصاب المشركين من القحط عندما دعا عليهم الرسول - ﷺ - وهو مقيم معهم في مكة فأصابهم ما أصابهم من القحط(١)، فكيف يمكن الجواب على ذلك بدون تقييد العذاب بالاستئصال؟(٢).
٢- أن هذا القول لا يلائم المقام.
الجواب على ذلك:
قال الألوسي: وأجيب بمنع عدم الملائمة(٣).
إذ إن الآيات السابقة لهذه الآية تناولت الحديث عن نوع من أنواع العذاب بالاستئصال وهو طلب المشركين إمطارهم بالحجارة، فلماذا لا تكون هذه الآية رداً وجواباً على طلبهم.
أما الجواب على الأقوال الأخرى فعلى النحو الآتي :
١- القول الأول وهم القائلون بنفي وقوع العذاب والنبي - ﷺ - مقيم معهم في مكة، فهذا يشكل عليه ما أصاب المشركين من القحط في مكة والنبي - ﷺ - فيهم.
٢- القول الثالث وهم الذين خصصوا العذاب في الآية بإمطارهم بالحجارة فهذا القول ليس فيه إشكال، غير أن القول المختار أجمع منه وأتم.
٣ - مسلك النسخ:
ويجاب عليه بأن هذه المسألة من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ.
(١) انظر صحيح البخاري كتاب الاستسقاء، باب دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: (اجعلها سنين كسني يوسف)، رقم (١٠٠٦)، (١٠٠٧)، وباب إذا استشفع المشركون المسلمين عند القحط، رقم (١٠٢٠).
(٢) انظر حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (٤/٤٦٨)، وروح المعاني (٩/٢٠٠)، وتفسير المنار (٩/٥٤٦).
(٣) روح المعاني (٩/٢٠٠).

قال ابن جرير في ترجيح هذا القول: وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله - ﷺ -، فغير جائز أن يكون استثناء في أهل الشرك، وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله - ﷺ - أن الله يدخل قوماً من أهل الإيمان به بذنوب أصابوها النار، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء أهل التوحيد قبل دخولها مع صحة الأخبار عن رسول الله - ﷺ - بما ذكرنا، وأنا إن جعلناه استثناء في ذلك كنا قد دخلنا في قول من يقول: لا يدخل الجنة فاسق ولا النار مؤمن، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم وما جاءت به الأخبار عن رسول الله - ﷺ -، فإذا فسد هذان الوجهان فلا قول قال به القدوة من أهل العلم إلا الثالث(١).
مناقشة الأقوال السابقة
أولاً: مسلك الجمع:
القول الثاني: إن سياق الآية يخالف هذا المعنى، فالذي يظهر منه أنه قد أصابهم شيء من العذاب ثم استثناهم الله تعالى بعد ذلك.
القول الثالث: فهذا القول في معنى القول الراجح ومؤيد له.
القول الرابع والخامس: يجاب عنه بمثل الجواب عن القول الثاني.
القول السادس والسابع: يجاب عنه بأن فيه إخراجاً لحرف الاستثناء لمعنى يخالف معناه الحقيقي بغير دليل.
القول الثامن: إن سياق الآية يتحدث عن الخلود في العذاب أو في النعيم من عدم الخلود، وليس عن زيادة العذاب والنعيم من عدمه.
القول التاسع والعاشر والحادي عشر: وهذه الأقوال في معناها صحيح إلا أن الحمل على القول الأول أظهر وأقرب(٢).
ثانياً: مسلك النسخ:
(١) تفسير الطبري (١٢/١٤٨).
(٢) انظر الإجابة على هذه الأقوال في حاشية الشهاب (٥/٢٣٦ - ٢٣٩)، وروح المعاني (١٢/١٤٢-١٤٦)، ورسالة (كشف الأستار في إبطال قول من قال بفنار النار) (٢/٧٨٩ - ٨٠٢) من كتاب الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

٢٧- إرشاد الساري، لشرح صحيح البخاري، أحمد بن محمد القسطلاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة السابعة، ١٣٠٤ه‍.
٢٨- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٥ه‍.
٢٩- أسباب النزول، علي الواحدي، تخريج وتحقيق: عصام الحميدان، دار الصلاح، الدمام، الطبعة الثانية، ١٤١٢ه‍.
٣٠- أسد الغابة في معرفة الصحابة، علي بن الأثير الجزري، تحقيق: علي محمد معوض وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٥ه‍.
٣١- الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٥ه‍.
٣٢- أسنى المطالب شرح روضة الطالب، زكريا الأنصاري، تحقيق: محمد الشوبري، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
٣٣- الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٥ه‍.
٣٤- أصول البزدوي، محمد البزدوي، إحياء الكتب العربية، القاهرة، ١٣٨٣ه‍.
٣٥- أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، محمد الخميس، دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤١٦ه‍.
٣٦- أصول السرخسي، محمد السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤ه‍.
٣٧- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ١٤١٥ه‍.
٣٨- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، نشر: الأمير أحمد بن
عبد العزيز، ١٤٠٣ه‍.
٣٩- إعراب القرآن، أبو جعفر النحاس، تحقيق: زهير غازي زاهد، عالم الكتب، بيروت، مكتبة النهضة العربية، الطبعة الثالثة، ١٤٠٩ه‍.
٤٠- أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، حمد الخطابي، تحقيق: محمد آل سعود، جامعة أم القرى، مكة، الطبعة الأولى، ١٤٠٩ه‍.


الصفحة التالية
Icon