ففي الحديث النهي عن السجود لغير الله، بينما في ظاهر الآية يفهم منه الجواز، وإذا نظر الباحث في سبب نشوء موهم التعارض بين الدليلين علم أن ذلك عائد إلى جهل أن الدليل المخالف يتحدث عن حكم في شريعة من قبلنا وليس في شريعتنا(١).
٢٠- الجهل بلسان العرب وأمثلتهم:
فعندما تأتي كلمة أو مثل من كلام العرب في دليل ولا يعرف الباحث معناهما ويحملهما على ظاهرهما ينشأ موهم التعارض.
مثاله: قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) ﴾ (٢).
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ - :(يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي منادٍٍ: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يا أهل النار فيشرئبون، وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم هذا الموت. وكلهم قد رآه، فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة، خلود فلا موت. ويا أهل النار خلود فلا موت)(٣).

(١) انظر ص (٣٦٠).
(٢) سورة هود: آية (١٠٦ - ١٠٨).
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾، رقم (٤٧٣٠)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة نعيمها وأهلها، رقم (٢٨٤٩).

عن وهب بن منبه قال: سألت جابراً: هل غنموا يوم الفتح شيئاً؟ قال: لا(١).
وجه موهم التعارض بين الآية والحديث:
المسلمون عندما يقاتلون الأعداء ويتمكنون من أموالهم، تكون هذه الأموال غنيمة تقسم على المسلمين كما بينت ذلك الآية، ولكن ما جاء في فتح مكة خلاف ذلك، فالنبي - ﷺ - لم يقسم أموالها على المسلمين وتركها في أيدي أهلها، فكيف يمكن الجمع بين فعله عليه الصلاة والسلام وبين ما نصت عليه الآية ؟
مسالك العلماء تجاه موهم التعارض
سلك العلماء في دفع إيهام التعارض بين الآية والحديث مسلك الجمع وتعددت أقوالهم على ضوء اختلافهم في فتح مكة هل كان عنوة(٢)أو سلماً ؟
القول الأول:
إن مكة فتحت عنوة -أي بقتال- ولم تقسم الغنيمة، وهذا الأمر خاص بمكة، فالرسول - ﷺ - مَنَّ على أهلها فرد عليهم أموالهم وأرضهم ولم يقسمها على الغانمين وهذا أيضاً خاص بالرسول - ﷺ - ليس لأحد من الأئمة أن يفعل ذلك في شيء من البلدان غير مكة، فهي بلد آمن حرمها عليه الصلاة والسلام كما حرم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
(١) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب ما جاء في خبر مكة، رقم (٣٠٢٣)، والبيهقي في السنن الكبرى (٩/١٢١)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (٨/١٧) إسناده حسن.
(٢) العَنْوةُ: القهر، وفتحت هذه البلدةُ عَنْوةً أي: فتحت بقتال، انظر معجم مقاييس اللغة (٦٧٨)، ولسان العرب
(٩/٤٤٣).

وهو ما ذهب إليه ابن الأثير(١)، وابن حجر(٢)، حيث حمل النهي على إطلاق لفظ (الرب) بلا إضافة، وأما مع الإضافة فيجوز إطلاقه.
قال ابن حجر: الذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه، كما في قوله تعالى: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ (٣) (٤).
ثانياً: مسلك الترجيح:
حملوا النهي في الحديث على التحريم، وأما ما جاء في الآيات من الدلالة على جواز ذلك، قالوا: أنه جائز في شرع يوسف عليه السلام.
قال ابن بطال: ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: إله، ولا رحمن، ويجوز أن يقال له: رحيم لاختصاص الله بهذين الاسمين، فكذلك رب لا يقال لغير الله(٥).
وقال ابن مفلح (٦): وظاهر النهي التحريم(٧).
وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون ذلك جائزاً في شرع يوسف عليه السلام(٨).
وقال ابن تيمية: لا ريب أن يوسف عليه السلام سمى السيد رباً في قوله: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ و ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ﴾ (٩) ونحو ذلك، وهذا كان جائزاً في شرعه، كما جاز في شرعه أن يسجد له أبواه وإخوته، وكما جاز في شرعه أن يؤخذ السارق عبداً(١٠).
(١) انظر النهاية لابن الأثير (٢/١٧٩).
(٢) انظر فتح الباري (٥/٢٢١).
(٣) سورة يوسف: آية (٤٢).
(٤) فتح الباري (٥/٢٢١).
(٥) شرح صحيح البخاري لابن بطال (٧/٦٨).
(٦) محمد بن مفلح بن محمد بن مفرح المقدسي ثم الصالحي الراميني الحنبلي، أبو عبد الله الفقيه، توفي سنة ثلاث وستين وسبعمائة بعد الهجرة، انظر الدرر الكامنة (٤/٢٦١)، وشذرات الذهب (٨/٣٤٠).
(٧) نُقل عنه في تيسير العزيز الحميد (٦٥٣).
(٨) أحكام القرآن (٣/١٠٨٩).
(٩) سورة يوسف: آية (٥٠).
(١٠) مجموع الفتاوى (١٥/١١٨).

٧٠- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد الشوكاني، مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٣٤٨ه‍.
٧١- البرهان في أصول الفقه، عبد الملك الجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، دار الوفاء، مصر، الطبعة الثانية، ١٤٠٨ه‍.
٧٢- البرهان في علوم القرآن محمد الزركشي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٨ه‍.
٧٣- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، الطبعة الثانية، ١٣٩٩ه‍.
٧٤- بلغة السالك لأقرب المسالك، أحمد الصاوي، المكتبة التجارية الكبرى.
٧٥- البناية في شرح الهداية، محمود العيني، المكتبة التجارية، مكة، الطبعة الثانية، ١٤١١ه‍.
٧٦- بهجة النفوس، عبد الله بن أبي جمرة، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثالثة.
٧٧- بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، عبد الرحمن السعدي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤ه‍.
٧٨- البيان في غريب إعراب القرآن، أبو البركات بن الأنباري، تحقيق: طه عبد الحميد، ومراجعة: مصطفى السقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٤٠٠ه‍.
٧٩- البيان والتحصيل، محمد بن رشد القرطبي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٨ه‍.
٨٠- تأويل مختلف الحديث، عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق: محمد محي الدين الأصفر، المكتب الإسلامي، دار الإشراق، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٩ه‍.
٨١- تأويل مشكل القرآن، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، شرح ونشر: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية.
٨٢- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد الزبيدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، وزارة الإعلام، الكويت، الطبعة الثانية، ١٤٠٧ه‍.
٨٣- تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم، عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤٠٦ه‍.


الصفحة التالية
Icon